هذه السنة أمضيتها كشبح
استجيبت دعوة مالك؛ انفصلت روحه عن جسده وأصبح يمشي وسطكم دون مزاحمة خطواته خطواتكم.

1: مناجاة متطرفة.
بعد خروج جميع المصلين، جلس مالك متربعًا، على حضنه صورةٌ مطبوعة لمنزلٍ يجمع المال ليشتريه يومًا ما. رفع يده وهلج بالدعاء.
يا رب.. افصل روحي عن جسدي. الله يخليك. أتوق إلى تغيرٍ متطرف. لا أريد هذا الجسد الضعيف المحدود. هذا الجسد الذي يركض إلى الحافة وكأن مصيره ليس السقوط في حفرة. كما أكره هذا القلب الذي يضخ الدماء بمحدودية. هذا القلب الذي لن يساعدني على التجاوز إلى أماكن ساحرة وغامضة. هذا القلب الذي سيتوقف عن الضخ قريبًا. أكره هذا الجسد المريض المتعلّق بتجسّده. أكره هذه البطن المكوّرة رغم هزالة بقية جسدي.
يا رب.. خذ عني المحسوس. أريد التجوّل بخلاصة وجودي، لا أريد التفكير بالنهاية. كل الوقت الذي سأعيشه لا يهم، فهو مرتبط بما يستطيع أو لا يستطيع هذا الجسد إنجازه. وهذا الجسد لا يجيد أي شيءٍ خارق. ما نفع شيء وُجِد ليؤدي وظيفته فقط؟ ما نفع عينٍ لا ترى إلا ما أمامها؟ ما نفع أذنٍ لا تستطيع سماع الجن، والعنقاء، ومحادثات الأشباح؟
لا نفع.
يا رب.
رغم الدموع في عينيه والحرقة في صوت دعائه، شدّ على الصورة في يده وفكّر بالمنزل الذي منذ رآه قبل ثلاث سنوات وهو لا شيء نصب عينيه سوى الحياة التي تأتي مع فيلا دورين في حي فاخر من أحياء مدينته.
حياةٌ تتضمن زواجًا، وأولادًا، ووظيفةً محترمة، وسلمًا وظيفيًا يُصعد خطوة خطوة.
2: مناجاة مستجابة.
استجيبت دعوة مالك؛ انفصلت روحه عن جسده وأصبح يمشي وسطكم دون مزاحمة خطواته خطواتكم. روحٌ بلا جسد. يتمشى في أي مكانٍ يريده ولا يظهر أمام الأعين، الحقيقية والرقمية، ولا يُشعر بوجوده إلا كما يشعر شعر العنق الخفيف بهبوب نسمة هواءٍ باردة.
في البداية حملت زياراته طابعًا طفوليًا. كأي شخصٍ وجد نفسه لا يُرى؛ ذهب إلى جميع الأماكن التي لن يُسمح له بزيارتها. دخل خزنة بنك. غرفة أطباء. خلف كواليس مسرح سيرك. أحد السجون. دخل بيوتًا لا تُحصى. ثم مل وبحث عن شيءٍ أنسب لهويته الجديدة.
اليوم مثلًا زار الحرم، يطوف ويدعي. لا تستطيع معرفة ما يقوله فهو لا يستطيع الكلام. الحقيقة أن ليس عنده أي مستقبلات رغم امتلاكه حواس خارقة. يرى ويسمع ويحس بلا عينٍ ولا أذنٍ ولا يد.
مالك طيف لا أحد يستطيع رؤيته.
بعد زيارته المسجد الحرام ركب تاكسي يُقلّ عائلة إلى المطار. لم يستمع إلى حرفٍ مما قالوه. فهو كان يلاعب الطفل الرضيع الذي تبسّم له دون أن ترى أمه السبب الحقيقي وراء مزاج أبنها الرائق. ذكرته العائلة بصورة المنزل فاختبأ في شنطة التاكسي وأخرج الصورة من داخله. تأملها. ترك مالك كل العالم المادي خلفه ولم يبقَ معه سوى هذه الصورة. لم يهتم بطعامٍ أو شرابٍ أو لبس رغم قدرته على استهلاك أي منها، لكن الحلم الذي تمثّله هذه الصورة عجز عن تجاوزه.
في المطار بحث عن أقرب رحلة تعيده إلى منزله، وعبر من بين أجساد الناس المصطفة في طابورٍ ثعباني طويل. صعد الطائرة والطاقم ما يزال ينظفها، فقضى وقتها متأملًا وجه الموظفة الذي أخبره الكثير، مثل أنها لم تتوقع أن وظيفة أحلامها ما تزال وظيفة.
حين امتلأت الطائرة وقعت عيناه على شيءٍ لم يعرف وجوده قبلًا.
شبحٌ آخر. طيفٌ آخر!
مشى في الممر بين الكراسي بدل اختراق أجساد البشر كعادته. كان الطيف الآخر أصغر، وأنحف، ورأى حوله هالة جاذبة.. هالة أنثوية. شعر بما يرادف شعور القشعريرة. اقترب منها.. الآن ما عاد يشك أنها فتاة.
ظهر خلفها، فلما رأته اندفعت بعنفٍ إلى الخلف. وأكملت هربها بينما يقترب منها بحذر. وعندما وصل كيانها الشفاف إلى باب الحمام فكّر. لو اقتربت خطوةً أخرى ستدخل الحمام.. بداخله صاحب-جسد منظره لا يسر توقّف في مكانه. توقّفت هي أيضًا. بعدما سكنت تمامًا حاول الاقتراب لكنها عادت تهرب. هذه المرة نصفها اختفى في دورة المياه.
لو عنده يد لرفعها. لو عنده فم لاستمالها.
خشي إفزاعها فحلّق إلى الخلف دون النظر خلفه. استقر طيفه داخل عربة التقديم وتصاعدت أبخرة القهوة من رأسه الشفاف. لو كان يشتهي شيئًا ماديًا غير محتوى الصورة التي يخبئها، فهو القهوة. رفع نظره عن السائل الأسود السميك ليجد الطيف الأنثوي يهتز. كأنه يضحك!
شعر بالألفة لأول مرة منذ كان صاحب-جسد.
وجد في اهتزازها شعورًا شبيهًا بموجة الفرح الغريبة التي تصيب البشر بعشوائية، ولكن الشعور لم يختفِ كمشاعر أصحاب-الأجساد. لم يلحقها إحساسٌ مريبٌ بالأسى. على العكس. بقي الإحساس ثابتًا لم يخفت أو يزداد جنونًا.
عرف أن الطائرة هبطت بتحرّك جسدها إلى الأمام. يبدو أنها لم تتعود على كيانها الجديد بعد.
هل يعقل أنه فتح بابًا للأشباح من بعده؟
وقع الوقت مختلفٌ عند الأشباح. هذه الرحلة التي امتدت لساعات مرت كما تمر الدقائق. والقهوة التي كانت تخرج من رأسه قبل ثانيتين خرجت فعليًا قبل ساعة.
عندما عادت عينيه إلى الشبح وجدها هربت. من النافذة رأى كيانها الشفاف يخترقه مطر كثيف.
شعر أحد الركّاب بنفحة باردة لم يعرف مصدرها، راق مزاجه واحتضن أبنائه الذين لن يعرفوا أن مرور مالك من أمامهم هو السبب، أو يستطيعوا شكره على أول حضنٍ يتلقونه من والدهم.
هبطت درجة الحرارة في المطار، ظن الناس خاطئين أن هطول المطر هو السبب، بينما لحق مالك الأنثى في أرجاء المكان. لم يعد دافعه الوحيد الحب، بل أراد سؤالها عن تحوّلها، وهيئتها، وهويتها. شعر بأن الأمر شخصيٌ جدًا، وأيضًا شعر أنه أكبر منهما.
3: عالم جديد خلّاق
عبرا المطار، وحي المطار، والطريق المؤدي إلى المطار. صعدا كثبانًا رملية يعرفها. ومرا بسهولٍ خضراء لم يرَها قط. ورغم المطاردة توقفت الفتاة فجأة داخل أرضٍ مبتلة. وقف على بعد مسافة كي لا يفزعها. رأى نتوءً كالأنف عند وجهها. قرّبته من الأرض الطينية ثم انبثق من طيفها ما يشبه اليد. مسحت على الأرض فأثمرت زهور خزامى بنفسجية فوق صفحة الأرض البنية.
بعدما انتهت نظرت إليه من خلال دائرةٍ بيضاء تختلف عن كيانها الشفاف. في لحظةٍ لمعت عيناها وأكملت الركض.
مرت على المطاردة ليالٍ عديدة. لم يتوقفا إطلاقًا حتى سكنت فجأة.
“أرجوك وقّف!”
قلِق. كذّب. خاف.
كيف تتحدث؟ كيف يسمعها؟ وقف مكانه مشلولًا مذهولًا.
“ليه ما تتركني في حالي؟” اقترب الشبح منه. لم يتوقع الصوت البشري. كان له صوت طفل، لا أنثى ولا حتى رجل. مدفوعًا بالخوف من المعلومات الجديدة، عاد مالك إلى الخلف. “أنا آسف. سمعتهم يتكلمون عن الطائرة، وكان عندي فضول أشوفها. لو استدليت على أرضنا عن طريقي أخاف ما يسامحوني” سكت الشبح الطفل، وسمع مالك شهقةً كأنها ما يسبق البكاء. “راح يرجعوني صاحب جسد”.
إذن لم يخترع الاسم.
ظهر خلف الطفل طيفٌ كبير هالته لها مسحة وردية يتجاوز مالك بضعفين. حلّق إلى الخلف فارتطم بطيفٍ آخر. كيف! كيف لم يعبر من خلال الطيف.
هل قواعد الأطياف مختلفة؟ معلوماتٌ كثيرة.
“من هذا؟”
رد طيف الطفل “ما أعرف، قابلته في طائرة”
أنا مالك. فكّر.
“آذاك؟” رأى احمرارًا في رأس الشبح.
“لا. لا. أظنه فضولي فقط”
“وما أدرى الطفل بالخطر؟” قال الطيف خلف مالك، التف فوجد ذراعًا عملاقة تخترق السحاب، تكاد تهوي عليه.
“توقّف!” صرخ الطيف الآخر، ونظر إلى مالك. “تكلّم” هز مالك رأسه بقلة حيلة. “لا أستطيع منعه عنك إن لم تدافع عن نفسك” انتفض مالك، وأرخى جسده لتبلعه الأرض، ولكن الرجل خلفه أمسك بقمته. وبدأت ذراعه الأخرى تهوي من فوق السحب. لم يفكر قط بالكلام وكيف يتكوّن. حاول إعادة اكتشاف هذه المهارة التي يبدو أنه يملكها.
لكن التفكير صعب ويدٌ عملاقة على وشك أن تهوي عليك.
ركّز تفكيره على الحقيقة.
ما هي الحقيقة التي يريد أن يعبّر عنها في هذه اللحظة؟
الحقيقة هي هويته. فهو شبح، ولكن الأشباح تملك هوية. وجد الكلمة، خرجت حقيقته صوتًا غير مفهومًا أول الأمر. باتت الذراع العملاقة على بعد ذراعٍ عادية. ركّز كل وجوده على الحقيقة. “أنا مالك!” صرخ. توقفت اليد عن الهبوط.
نظر إلى داخله مبهورًا. “أستطيع أتكلم!” تشكّلت عيونٌ بشرية على طيف الشبح الوردي أمامه. ثم لحقها الفم، والشعر، وانبثقت يدان وقدمان.
“تستطيع الكلام، وتستطيع أن تكون أي شيءٍ تريده”
“لكني شبح!”
“لأنك شبح!”
تحوّل الشبح إلى حيوان مها وأكمل “التحول إلى شبح لا يضع عليك قيودًا، بالعكس ينزعها عنك” وقبل انغماس مالك في حقيقته الجديدة تحوّل الشبح إلى هيئة غولٍ عملاق وسأل. “طيّب يا مالك، ماذا تريد من ساري؟” ارتعش الطيف الصغير فعرف أنه ساري. “ضروري يكون عندك سبب وجيه لمطاردة طفل، أو راح نضطر نفنيك” كان صوته رقيقًا وبه مسحة أسى.
فكّر مالك بالهرب، لكنه وجد نفسه مربوطًا بحبلٍ لم يرَ مصدره. “هذا المكان ما ينفع للنقاش. تعال نروح مكان آخر” وجد مالك نفسه في السماء في الثانية الأولى، وفي الثانية كانوا يقفون على قمة جبلٍ شاهق. تحتهم هاويةٌ سحيقة لا يُرى آخرها.
“نحن في حافة الدنيا، فوق جبل قاف. إما نعلمك تطير من فوقه أو نرميك من قمته.. الخيار عندك مالك”
4: تحوّل حقيقي
حفهم الهواء الثلجي، ورأوا حولهم ثعاب بيضاء، وبومات بيضاء، ودببة قطبية وضفادع لها لونٌ مطابق للبحيرة المتجمدة خلفهم. توزّعت الحيوانات على امتداد الجبل، ولم يكن هناك أثر إنسان. لم يفهم مالك كيف باستطاعتهم رميه من الجبل. يستطيع أن يحلّق ببساطة، إلا أنه بعد كل تلك المعلومات، لم يشكك بتهديدهم.
“ما عمري شفت شبح قبل” قال وبصره ينظر إلى الهاوية، وفشله بإبصار الهاوية رغم إبصاره للحيوانات البعيدة أخبره بأنه على قمة جبلٍ من تكوينٍ مختلف. “ما ظنيت إن فيه شبح غيري” الأحداث السابقة أشعرته بسخافة جملته. “ما نويت شر لساري، فقط فضول”
“وكيف نصدقك؟” نظر الشبح صاحب الأذرع العملاقة إلى الشبح الوردي شزرًا فجاوب الأخير ببصره على سؤاله. لم يكن هناك داعٍ أو سبب للكذب. كما أن مالك شبحٌ لم يتخلّى عن كل صفات أصحاب الأجساد، هذا ظاهرٌ عليه.
“نصدقك يا مالك، الآن.. أيش تبغا؟”
“ممكن انضم لكم؟”
“في أحلامك!” صرخ صاحب الأذرع العملاقة “حتى لو أردت مسامحته، المدينة مكتظة!”
تجاهل الآخر صديقه وسأل “كيف أصبحت شبحًا؟”
رد مالك “بالدعاء” ولمّا طال سكوتهم تسلل قلقٌ بشري إليه وسأل “هل طريقتي خاطئة؟”
“طريقتك آسرة، ما أظن رأيت شبح اكتسب شبحيته بالدعاء، لكن الطرق كثيرة والوصول هو المهم” نظر إلى صديقه وقال “سنأخذه”.
“مستحيل! ليس في مدينة النحاس مكانٌ لروحٍ واحدة”
“بلى، هناك شبحٌ لا يمثلنا” اقترب من صديقه وأكمل “شبحٌ تواقٌ للقتل. شبحٌ أفنى حيواتً أكثر من إنقاذها، رغم أنه أحد حارس المدينة” تحوّل الشبح الوردي إلى غولٍ عظيم الحجم وأكمل “شبحٌ يقضي وقتًا أكثر في التدمير من الخلق” لم يجد صديقه ردًا إلا صراخًا بينما يحمله الغول العظيم ويقذفه إلى الهاوية.
نظر إلى الحفرة العظيمة التي ابتلعت صديقه وأكمل بصوتٍ مكسور “شبحٌ يستغل هيئته الخلّاقة لدس تصرفاته الشنيعة”.
في طريق عودتهم، شعر مالك بكل شيء. لم يكن الهدف ملاحظة أصغر التفاصيل، بل ملاحظة تكاملها. مثل اللوحة الجمالية التي ترسمها خيوط الشمس الصفراء على الصحراء البنية ولمحة اللون الأخضر والبنفسجي التي تعطي اللون تكاملًا. حتى الأشباح.. بل حتى البشر أصحاب الأجساد لم يعد يراهم كأشباحٍ أو أطياف. بل أجزاءٍ صغيرة مهمة من كونٍ واحد.
أخذوه إلى صخرةٍ عملاقة. وبلمسة واحدة تحولت إلى بابٍ مذهب يلمع كأنه الشمس. فُتِح الباب، ورأى مدينة النحاس. آلاف، أو ملايين، أو مليارات الأشباح الأخرى. في مجتمعاتٍ متفرقة، وبعضهم وحده، وبعضهم في أزواج. كلما أطال النظر أبصر أكثر. وكلما أنصت أدرك أكثر.
“مستعد؟ قرار الرجوع سيكون صعبًا، أو مستحيلًا. وقرار الإقدام له عيوبه. قرر الآن.”
أخذ نفسًا عميقًا، وأسمعته روحه مناجاته في تلك الليلة المصيرية.
أخذ قراره، ولكن قبلما يحلّق إلى المدينة ظهر منزلًا مألوفًا عن يمينه. فُتِحت النوافذ وظهر أفراد أسرة مألوفين، تحدّث المنزل “مالك. ما زلت تحتفظ بشيء مادي. إما تدخل بكل كيانك أو عود وحقق حلمك المادي” أخرج مالك الصورة ثم تركها تنزلق من بين يديه ببطء فحملها الهواء بعيدًا عنه.
بدمعةٍ في عينيه خطى إلى المدينة خائفًا ومتمحسًا.
عجبتك القصة؟
اشترك في المدونة حتى لا تفوتك قصصٌ مثلها