شهرزاد في خط الرياض
- ولد، هيه، الطريق لا نموت!
هززت كتفه فانتفض كأني رميته بماءٍ بارد. رَمش عدة مرات ثم فرك عينيه وضيقها ناظرًا إلي ببلادةٍ.
- لو تعرف تسوق ما اضطريتنا لهالحالة.
- ولو نمت مثل ما اتفقنا ما اضطريتنا لها.
تنهدت، وأكملت:
- وش رأيك تأخذ لك غفوة؟
- يا ابن الحلال الساعة أربع الفجر، لو نكمّل على مية وأربعين من هنا للرياض يمكن تفوّت موعدك، كيف لو آخذ غفوة؟
راقبت الطريق. الظلام دامس ولا وجود لأي سيارةٍ في مجال رؤيتنا، وهذه أخطر أحوال خط السفر؛ فمعنى عدم رؤيتك لأي مركبة هو أن مركبة ستظهر من العدم أمامك، وحينها تحتاج لشخص نبيه ليلتف في آخر لحظة، أما هذا الدلخ فراح يذبحنا.
رأسه يتأرجح كأنه قدم صبي يجلس على حافة مبنى.
- بو!
صرخت بينما أهز جذعه. فنظر إلي بعينين حمراوين وقال يجر كلماته كسكران:
- كل تبن أنت والبو حقتك، خلعت كتفي يا ملعون.
ما العمل يا مازن ما العمل.. الولد نائم، والخط مظلم، وأنت ما تعرف تسوق. شغّلت له عراقي ولم ينفع، شغلت له ستاند اب كوميدي وغيّب قبل البنشلاين. حتى محمد عبده الذي يملك مفاتيح كنز بو حسين لم يطربه. شعرت بقشعريرة باردة في قفاي حينما انحرفت السيارة قليلًا. أكلنا ثلاثين إلى أربعين مطب صغير من تلك التي تفصل بين المسارات. ثم سألني أبو حسين وأنا غارق في بحر أفكاري، وعيني بين الطريق وبينه:
- كم باقي على الرياض؟
- ميتين وسبعة وسبعين كيلو.
- يا الله يا الرقم الممل!
- ممل؟ وكيف يكون الرقم ممل؟
- وكيف ما يكون؟
لأول مرة منذ انطلقنا من جدة أرى جسده كله يتحرك بينما يتحدث:
- لو بقت مية وعشرين كيلو لقلت هانت، نقطع العشرين وما يبقى شيء.
- كيف كذا؟
- لأن أي مسافة تحت المية كيلو في خط السفر ما تُحَس وما تُحسَب. ما تتذكر كيف كنا نعامل مكة كأنها جنوب جدة؟
- أتذكر.
- أما لو تبقت ثلاثمية كيلو كان لعبنا لعبة ثلث الثلاثة كم.
- إيش تطلع هذه؟
- لعبة كنت ألعبها مع أبوي الله يرحمه، لما يبقى من أي خط سفر ثلاثمية كيلو يسألني: يا بو حسين ثلث الثلاثة كم؟
- أبوك كان يناديك بو حسين؟
- أجل يناديني إيش؟
- الله يرحمه.
رأيت الضوء في عينه ينطفئ، وعلى وجهه العجيني تبدت أمارات الحزن، فهتفت وبين أسناني بقايا حب دوار الشمس اتمضغها:
- وبماذا كنت تجاوبه؟
- ما أجاوبه، هذه فكرة اللعبة. هو يحاول يباغتني بالسؤال عشان أبلع الطعم.
- وتجاوبه ثم تخسر.
- أيوه، أصرخ: واحد! ثم أخسر اللعبة.
- وكيف تفوز؟
- ما أجاوب حتى تبقى مية كيلو، فهو قصده ثلث الثلاثمية كم؟ والجواب ممنوع حتى نصل حرفيًا للجواب؛ المية كيلو.
أخذ نفسًا وراقب شاحنة تجاوزناها من اليمين حتى اختفت ثم قال:
- تخيّل إنك رايح الرياض بشاحنة؟ أذبح نفسي أسهل.
التففت، لأرى الرجل المغوار ذا الصبر العظيم. ثم قلت:
- نرجع للعبة.
- ايوه، وين كنت؟
- شدراني.
- تذكرت.. ثم لما نوصل للمية كيلو نتكلم عن أي شيء حتى نجزي بقية المسافة. كنت أبقى صاحي في الخطوط لأني مشغول بتجهيز محادثات ما تحت المية كيلو، ومشغول في التركيز عشان ما يباغتني وأجاوب.
- لعبة سهلة.
قذف غطاء بذرة دوار الشمس بعشوائية، ونظر إلي شزرًا.
- أكيد بتقول سهلة، لكن لما أفاجئك في الخط وأنت مشغول في شيء ثاني بتعرف.
- مشغول في الخط؟! إيش ممكن يشغلك!
- أحاول ما أنام.
- والله لعبتك سهلة لأي واحد فوق الثمانية سنوات.
تلعثم في رده:
- يا- ياخي صعبة، بالذات لما تكون في خط طويل. وش فيك مسوي جني تعرف كل شيء؟ بعدين آخر مرة لعبت معاه كنت صغير.
- كم كان عمرك وقتها؟
- ثلاثة وعشرين، قبل سنتين.
كتمت ضحكة، وأردف:
- أبويا كان عبقري الله يرحمه.
تلمع عينه كزجاجة. أثارت نظرته ذكرى أحملها له في عزاء والده. كان جالسًا والجميع قيام في الصف. لم يقف لأي معزي. اكتفى الرجال بتقبيل رأسه وتعزيته جاثمًا على كرسيه كصقرٍ حزين.
- طوال عمري وأنا أحس إن نهايتي مثل نهاية أبوي.
هاه؟
محوت صورة العزاء بسرعة لأعود للمصيبة التي أظن أني فيها، هل خدعتني إذني؟ نظرت إلى أبي حسين، وإذا بنهرين هادئين ينهمران على وجهه.
- بو حسين. قلت شيء قبل شوية؟
- أبوي توفّى في حادث سيارة، أحس إن نهايتي بتكون مثله.
صادف ما قاله واحدة من آهات محمد عبده الذي رافقنا طول الخط. كان الليل يحيط بنا كأننا نختبئ في ثناياه. ومن غير ضوء مركبته الإلنترا الهزيلة، كنا عميانًا لا نرى إلا ما نحن على وشك مشيه. كل هذه ظروفٌ ملائمة لنلحق أنا وأبو حسين، بأبيه. قال:
- أتوقع بموت بحادث سيارة. أتوقع بدخل تحت وايت، أو بتحدني كابريس وأتقلّب ألف قلبه، أو بنام في الخط وأصحى عند ربي.
- صلي على النبي إيش الكلام هذا.
- لا تقلق. ما أقصد اليوم بالذات، ولكن في العموم يعني.
ما تقصد اليوم بالذات. الله يطمن قلبك يا رفيقي.
شعرت بأننا داخل لوحةٍ زيتية. وسط الهدوء الذي لا يُسمَع منه إلا شكوى الهواء من اختراق مركبتنا الخط. فوق الطريق الأملس. تحت السماء الخالية من نجومها، وقمرها، وسحبها. قررت السماء أن تداوم اليوم “أي كلام” كأنها موظف في رمضان. كل شيءٍ كان ساكنًا. أو يتحرك برتابة جالبًا للنوم. يُقال أنك لو بقيت بلا حركة لعشرين دقيقة ستنام. الله يستر.
أرى رأسه يترنح كحبلٍ يوشك على الانقطاع، والسيارة تنحرف ببطء عن مسارها، وأتذكر جثومه في العزاء مجددًا.
تخرج السيارة عن المسار، فيعيدها بعنف بعد تنبيهات المطبات الأرضية. ثم بات لا يستيقظ إلا حين أصرخ، وحين أصرخ يبتسم ابتسامة بلهاء. لا يبتسمها إلا سكران أو نصف نائم.
يخفق قلبي بسرعةٍ هستيرية، ويدور رأسي كشخصٍ ركب قطار الموت مرتان متتاليتان. فكّر يا مازن.. فكّر، كيف تسلي هذا الزومبي الذي يوشك على قتلك؟
ثم فجأةً تطن في رأسي. وجدت الفكرة!
ماذا يحب بو حسين أكثر من أي شيء؟
يحب محمد عبده، وسوالف الجن، ولسببٍ ما هو مهووس بشركة ثمانية.
- بقول لك سر عنه يا بو حسين.. لكن أحلف ما تعلّم أحد؟
قلتها وأنا أضرب بسبابتي المعقوفة على اسم محمد عبده الظاهر في المسجل أمامنا.
- والله ما أعلّم أحد.
كنا قد صعدنا للتو للسيارة بعد توقفنا لتعبئة خزان البنزين، وتفريغ خزاناتنا. آخذ نفسًا عميقًا، أدعي التردد، وأخبره بأن يكمل سيره. لأول مرةٍ أصبح هو من يراقبني. وجهه جدي. كأنه يريد إقناعي بأنه بير ماله غطى.
- لا. أعتذر والله أخاف تفضح يا بو حسين.
- أستغفر الله العظيم! علّمني يا ابن الحلال!
- كيف أضمنك؟
- أنا صديق عمرك يا بو صفوان، عيب الكلام هذا!
- والله والنعم، لكن بعطيك أسرار كبيرة كبيرة. بعضها من معارف وبعضها أنا عشتها بنفسي، وتعرفني يا بو حسين لا أكذب ولا أقول للناس أسراري.
- هي والله لا تقول، وإلا زَعَلْ.
- عجيب!
- العجيب والله تشوقني بهذه الطريقة ولا تعلمني. يا واد هات العلم.
- طيّب، اسمع هذه.
تعرف عمي فواز. له صلة بالعديد من الأشخاص المعتبرين في الوسط الفني. ولحّن لكثير منهم. واحد من هؤلاء الأشخاص هو عيد العيد الملحن الشخصي لفنان العرب. وهو أبدع هذه الأغنية مع أبو عبده.
الأغنية هي الأماكن، أشهر أغنية سعودية. تعرف أني ما أديرها بالنسبة للأغاني العربية لكن هذه الأغنية بالذات حتى أنا تطربني. لكن هل تعرف سبب هذه التسمية؟
العلم إن سبب تسمية الأماكن بهذا الاسم هو هجران أعز أصدقاء أبو عبده له بسبب الغيرة والحسد. صديقه هذا مغني مغمور يغني شعبيات الآن. المؤسف أن هذا الصديق كان قدوةً لأبو عبده، لذلك يقول في الأغنية: “حتى صوتي وضحكتي لك فيها شيء” لأنه كان دائم التقليد لصديقه اللي كان أكبر عمرًا وأكثر شهرةً في بدايات محمد.
بل وكان يراه بمثابة أخٍ كبير يستمد منه الحنان والأمان، لهذا قال “وآه آه آه آه آه، الأمان وين الأمان؟ وأنا قلبي من رحلت ما عرف طعم الأمان”. تستطيع بوضوح رؤية أن هذا الشخص يخاطب شخصيةً أبوية، لا حبيبة.
حتى أن، وهذه لا أصدقها لكن الخيار لك، يُقال أن أبو عبده عرض عليه أن يشاركه المسرح ويأخذ نسبةً من الأرباح لكن الصديق رفض. وتكتم أبو عبده على الموضوع بسبب الاحراج، فلا أحد من المحيطين به يعرف المقصود بالأغنية. أنت الآن سابع شخص يعرف هذه القصة. بعد الصديقين والملحن وعمي وأبي وأنا.
- لا! غير معقول!
- معقول ونص!
- إيش اسم الصديق؟
- ما أحد يعرف إلا أبو عبده.
رديت وأنا أخبئ هاتفي تحت فخذي بعد إقفالي لصفحة “كلمات الأماكن” في موقع جينيس الشهير.
- أحلف بالله إنها صارت.
ترددت، لكني اعتبرت بو حسين يهدد حياتي، ونومه هو المسدس فالموتة واحدة، برصاص أو حادث:
- ورب الكعبة عمي فواز قالها لي بالحرف.
- آمنت بالله. والله إني حاس إنه مسكين وساذج.
- وهالقصة ماهي أعجب ما عندي يا بو حسين، عندي الأعجب منها.
في نظراته الحائرة رأيت أحجيةً لم يستطع حلها، لكنه أراد المزيد من الأحاجي. لمع بؤبؤه وسط الجذور الحمراء المعقدة في بياض عينيه. عيناه الناعستان مفتوحتان. وفمه أيضًا مفتوح بشرود. كانت عنده أسئلة كثيرة عما افتريته على أبي عبده.
- اسمع الأعجب يا رفيقي. لكن خلينا نقرأ المعوذتين أول. بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الفلق…
هذه القصة حدثت لأختي. وأختي رغد كما تعرف، مصابة بالجنون. والسبب الرسمي هو أنها مصابة بعقدة رهاب اجتماعي تفاقمت حتى خرجت عن السيطرة وأصبحت لا تحسن حديثًا ولا منطقًا. هذا ما يقوله أبي لأخوته وما تقوله أمي لأمها. ولكن، وكما هي العادة مع كل شيء السبب الحقيقي مثير للاهتمام أكثر.
رغد رأت جني.
ولا أقصد لمحة، أو ظل، أو صوت وقوع شيء في غرفة أخرى. لا، رأته رأته.
كانت أختي منذ صغرها تدعي أنها تسمعهم، وتراهم، بل وتشمهم. لم نصدقها يومًا. ونحن لا نلام هُنا، فمن يصدق كلامًا مثل هذا؟
لكني أنا خصوصًا أُلام على ما حدث بعد هذا.
في يوم شتاءٍ أسطوري قررنا الذهاب للهدا، ولا تسأل لماذا نذهب للهدا في عز الشتاء. فهذا شأن الجداوية والمكاوية. عمومًا، كانت رغد مريضة فجلست في البيت وحدها. ومن عادتها الجلوس في الظلام ومشاهدة أفلام الرعب. من سلسلة ساو، وسكريم، وإيفل ديد، وإلى مقاطع مشعل الجاسر.
جلسنا على الرصيف، ونعم ذهبنا إلى الهدا لنجلس على الرصيف، مجددًا هذه عادتنا. وبعد سحت كل ما لذ وطاب من الأكل والشراب، يحين وقت العشاء. وكانت طلعتنا عبارة عن جلسة فوق الرصيف، وشرب القهوة والشاهي، وأكل الحَب، نختمها بحبة مضبي، ونعود أدراجنا.
رن جوالي بصوت تنبيه، رغم أنه كان على الصامت. وصلتني رسالة من رغد على الواتساب عبارة عن مقطع فيديو مصحوب بعلامات تعجب كثيرة. فتحت المقطع. كانت تصوّر ووجهها بتميلح، غالبًا لترسل الفيديو في السناب.
أما العجب فكان فيما رأيت في آخر ثانيتين.
هبطت على كتفها اليسار ثلاث أصابع بيضاء شديدة النحافة والطول. يدٌ بيضاء واضحة استراحت على كتفها، رأيتها كما أراك.
ثم ظهَر.
وجهٌ ينظر إلى الكاميرا. عيونٌ زائغة بلا حواجب. وفمٌ فوقه خطٌ من الشعر البني الخفيف. دون أي ملامح أخرى. أرعب ما في الأمر أنه لم يحمل أي تعبير. كان ينظر بهدوء. وكأنه ذئب وأختي نعجة، والطبيعة على وشك أن تأخذ مجراها ببساطة.
قلت لرغد أن هذا ليس إلا ظلًا وعليها ألا تتوهم، ولا داعٍ لإفزاع أهلي. وماذا أستطيع أن أقول لها ونحن في مدينةٍ أخرى ولا أحد حولها؟
ثم حُذِفتْ الرسالة. ولم تكن رغد الفاعل.
في الأيام التالية قالت بكلامٍ نصف مفهوم أنها تحدثت معه، وأخبرها بما يُشيب الرأس. أطفال مخطوفين، ممزقة جلودهم ومدقوقةٌ أعناقهم. رجالٌ ونساءٌ مصروعين في الصحاري. خرافٌ مشوهة. رُعاةٌ جن جنونهم. شيوخٌ قادتهم أضواءٌ غامضة إلى قلب الصحراء.
وأخبرها عن نوعه المفضل من البشر، المسافرين آخر الليل.
تقول أنه طلب منها تحديد الطريقة التي تريد أن تهلك بها. كانت تقول كل هذا وتضحك حتى تبكي، فلما رأيتها على هذه الصورة عرفت نوع الموت الذي اختارته. وما مرت الأيام حتى أصبحت اختي بلا منطق أو عاطفة. كأنه سحب عقلها وابتلع روحها.
لكن أتدري ما هي المصيبة؟
أني الوحيد الذي يعرف أنها ليست مجنونة. أنها رأته حقًا. يده البيضاء الطويلة. رأسه الدائري. نظرته الخالية من أي تعبير. وذاك الجزء من الثانية الذي نظر فيه إلى الكاميرا، الذي نظر فيه مباشرة إلي. وهي تعرف ذلك أيضًا، فما زالت تقف عند باب غرفتي كل ليلةً، تقف هناك فقط وتنظر مباشرة إلي دون أن تتحدث.
- يا رجل صلي على النبي.
- اللهم صلِ وسلم على نبينا محمد.
- هذا جني أبيض معروف، هذا جني مسلم ما يؤذي.
- أجل ليه تتراعد؟
كان بو حسين شاخصًا جاحظ العينين. صوته ويده اليمنى يرتعشان. بل حتى وأنا أدرك أن ما حكيت لم يكن غير كذبة، وأن أختي ولدت مجنونة، بدأت أشعر بنفسٍ خفيض خلفي، لم أجرؤ على النظر. وحينها لاح ضوء مركبة قادمة.
تسمرنا في انتظارنا، لم نستطع أن نبعد أعيننا وكأننا نعرف ما القادم.
لما توازينا والمركبة، رأينا الراكب. لم يسمح لنا الظلام رؤية كل شيء، ولكن ما رأيناه كفانا.
رأسٌ دائري ملثمٌ بغترة بيضاء. خطٌ بني فوق الشفاه. عينٌ شاخصة لا يمكن تجاهلها. أصابع بيضاء طويلة تحيط المقود. وملمحٌ ميت يخلو من أي تعبير.
- خلنا نقرأ المعوذات مرة ثانية.
قرأنا المعوذتين، ثم أعدنا القراءة، ثم شغلنا سورة البقرة. أسمع أنفاس بو حسين الضيقة. وما شعرنا بالراحة حتى لاح خيط الفجر الأبيض. اتفقنا على عدم التوقف للصلاة لسببٍ قد يكون له علاقة بالرجل الغريب.
وأمضينا في حالنا هذه نصف ساعة، حتى زال عنّا أثر الفجعة.
نظرت للوحة المسافة. لم يبقَ غير مئة وعشرين كيلو. تنفست الصعداء. ولكن الرجل بدأ يحرّك رأسه بعنف يمينًا وشمالًا يريد أن ينفض النعاس حرفيًا عن رأسه. يا ليت الأمور تتم بهذه الطريقة يا أبا حسين.
أصبح الوضع قريبًا من اليأس. وهذا يعني أن علي إخراج آخر أسلحتي وأقواها: الشخصنة. واجتماع الكذب مع الشخصنة مزيجٌ جهنمي خصوصًا في خط سفرٍ لا يسمح بالتأكد من المعلومات. العم جوجل لن ينفعك هُنا يا بو حسين.
- تدري إن ثمانية عندهم سمعة ما هي طيبة؟
- هاه؟! إيش الطاري؟
- تتذكر ريفي؟
- خويتك المزعجة؟
- ما هي “خويتي”. هي صديقة.
رفع حاجباه، ونظر إلي وهز رأسه ثم قال:
- أكيد! أكيد! صديقة.. قيرل فرند.
- أنقلع ما بكمل.
- نعم أتذكرها.
لما طال سكوتي صرخ:
- يا بزر كمّل.
- اشتغلت معاهم ثلاثة أشهر، وشافت الويل.
سكت أبو حسين، يحل أحجية ثانية أسهل من الأولى، ثم قال:
- ثلاثة أشهر، بمعنى أنها ما كملت الفترة التجريبية. وحسب كلامك عنها، أن الانتقال من شركة لشركة عادتها. وهذا يقول لك كل شيء عن…
- طيّب اسمع الكلام، وبعدها أحكم يا آدمي. لا تدافع عنهم وكأنك مساهم في الشركة قبل ما تعرف الموضوع حتى!
- تفضّل حكينا عن خويتك اللي ما بقت شركة من شركات الرياض ما طردتها.
في نبرته حنقٌ يجابه حنق كلماته. شعرت بدمه يفور، وإحساسٌ لذيذ بالانتصار يعتريني، لكن المهمة بدأت للتو. أكملت:
في مرةٍ من المرات كانت ريفي تجلس في المساحة المشتركة، تأكل برجر نباتي وتعمل على وثائقي لرجل سعودي يستطيع تقفي الناس بالإحساس، كان أسطورة الإحساس. إذا قال “أحس” فخذ كلامه وقدمه أمام أقوى محكمة…
- أي، شفت الوثائقي…
- يا أبا حسين، لا تقاطعني رجاءً.
- آسف، كمّل.
المهم، فجأة رأت مالح، المؤسس، يمشي وخلفه جميع الموظفين. لما مر بها طلب منها إغلاق الحاسب المحمول، وإنهاء شطيرة البرگر في أقرب وقت للحاق بالاجتماع. ولما اشتكت أنها لم تأكل من ثمانية أيام بسبب انشغالها بالوثائقي، وبالثمانية نشرات البريدية السرية، وبالبودكاستات الثمانية رد بأن ستيف جوبز صنع الآيباد في ثمانية أيام، فما عذرها؟
طبعًا تعرف ريفي، مناضلة مناهضة تتمنى أنها ما تشدّها أحيانًا من شدة نضالها. أخبرته “أنتم بودكاست مو آبل” فاحمرت عينه، وغضب غضبةً لا حدود لها وقال:
- أمم عجيب.
ثم أعطاهم خطابًا حارًا طويلًا عن أهمية الصحافة الجديدة، وأنهم شباب يملكوا نفس مهارات أطلق كاوبوي في أميركا.
ولهذا السبب سيفصل كل موظفٍ لا يرى نفسه يمثل أعلى المعايير، فهنا الجميع فرد من أسرة، وإن لم تكن كفو لتصبح جزءً من الأسرة ستُفصَل، زيك زي أي فرد في أي أسرة طبيعية ثانية في أي مكان في العالم.
قفزت المديرة التنفيذية للشركة واقترحت كتابة مقالة تشرح هذا الوضع للعوام فاعترض منتج مسؤول عن ثمانية بودكاستات، لا يُكلّف الموظفين إلا بثماني مهام في الشركة، وتساءل إن كانت هذه فكرة سديدة فكلام المكاتب للمكاتب وليس للآرتكلز، وحينها ضحك مالح وقال:
- أولًا اسمها مقالات، وثانيًا أمم عجيب.
ثم ضغط زرًا فجاء “فتى الشاي” وفي يده دستور ثمانية الذي كتبه مالح في كاليفورنيا، أميركا والذي ينص في المادة الثامنة أن تويتر يدخل ضمن حيّز مكاتب الشركة.
عندما أنتهى من خطابه صفّق الجميع، وقررت ريفي عدم البقاء مع الشركة والتوجه إلى شركة تعنى بنشر الفلسفة، ولها معهم قصة أخرى. وأما المنتج فأصبح مسؤولًا عن كتابة المقالة، ليتعلّم روح الفريق.
- بس يا أخي يتكلمون بالعربي.
بعد هذا التعليق دار بيني وبين بو حسين حوارٌ طويل رفع ضغطي نسيت في حدته أن الموضوع كله تأليف وتخريف وأني المؤلف والمُخرِّف.
وصل الحوار إلى ذروته عندما وصل إلى أدناه. قلت له بأنه كالبهيمة تحب من تحب دون أن ترفع رأسها لترى شيئًا، وقال أني كأم زكي نقّال للحكي، وتمنى لو يملك شركة ليوظف “خويتي” ثم يطردها.
وحينها ظهرت أمامنا الجبال العملاقة المحيطة بمدخل الرياض.
وصلنا بالسلامة، الحمدلله.
ما زال المخلوق الغريب في الطريق لم يغادر مخيلتي، ودمي فائر من استبسال بو حسين، وضميري يؤنبني على كذبة أبو عبده.
ارتفعت الشمس حتى لفحتنا. نظرت إلى الساعة، تبقى على موعد المقابلة نصف ساعة. والخرائط تقول أن المسافة بيننا وبين مقر المقابلة ثلث ساعة، الحمدلله. خطرت على بالي فكرة مضحكة وأنا اشرب سن توب فاتر اشتريناه من محطة في مكة:
هل سيكرهني بو حسين إذا عرف أن الوظيفة في ثمانية؟
النهاية مذهلة! استمتعت بالقصة من الكلمة الأولى حتى الأخيرة!