ليه اقرأ كتب عن الكتابة؟
في هذه الأيام تشغلني كتابة رواية، ولمّا اقرأ حواراتها أجدني أتبع هذه التعليمات:
يجب على الحوار الجيد أن يدفع الحبكة، أو يكشف الشخصيات، أو يبني العالم، وأن يكون مركزًا ومختصرًا ما لم تكن هُناك حاجة لإطالته.
الصراحة ما أتذكر من أي كتاب -أو كُتب- قرأت تشكيلة النصائح هذه، بل من أي مصدر، فأنا مستهلك نهم لكل ما يُعلِّم الكتابة، من كتب ومقاطع يوتيوب وتغريدات وورش ولقاءات وغيره. ومع الوقت يصبح تمييز مصدر التعاليم مستحيلًا.
في رحلة تعلمي هذه واجهت بعض معارضة، فهناك كُتّاب يرون أن الكتابة فعل ذاتي وموهبة إما نولد بها وإلا فلا. وأن الإبداع لا ينبثق إلا من رحم المعاناة. وكل ما عليك هو إكثار القراءة والكتابة حتى تسقط مغشيًا عليك فوق آلتك الكاتبة (أدري صرنا نستخدم اللاب توب، لكن الآلة الكاتبة توافق الخيال الشاعري). وصور رومانسية أخرى تمثّل في رأيي تصورًا خاطئًا عن الكتابة.
الكتابة تتبع كل ألوان الإبداع الأخرى مثل صناعة الأفلام والموسيقى والرسم وغيرهم. لا تجد من يعارض تعلّم أي من المذكور، ولكن تزمتًا غريبًا يصاحب تعلّم الكتابة. وهذا موضوع آخر ليوم آخر.
سنكتفي اليوم بقول: الكتابة حرفة كما هي فن.
لا أحد سيعلّمك كيف تكتب بأسلوبك، فالأسلوب يُكتشَف مع الممارسة، لا يعلّم أو يشترى. وطريقة روايتك للقصة تعتمد على أسلوبك. وهنا يأتي مزاجك، وطريقتك في الكتابة، مثل تفضيل الوصف أو الحوارات أو التركيز على الشخصيات أو الحبكة. هذا كله حيّز فنك فأصنع ما شئت.
أما فيما يخص جوانب الحرفة مثل بناء التشويق، وأنواع القصص، وطريقة كتابة الشخصيات وكيف تكون الحوارات طبيعيةً وذروة القصة وعناصر الكتابة الأخرى، فهي بلا شك تعلّم.
تجربتي الشخصية مع كتب مثل عن الكتابة جيدًا لويليم زينسر، ومسيرتي في التأليف لستيفن كينق، والحقيقة والكتابة لبثينة العيسى، وغيرها أثبتت لي نجاعة هذه الكتب الأسطورية، فكتب الكتابة كانت بمثابة نهر علمٍ جارٍ لا ينضب وأنا رجلٌ ظمآن انقطعت به السبل.
ولأستعرض رأي بأفضل طريقة، أريد تلخيص أسباب قراءتي لمثل هذه الكتب في نقاطٍ واضحة، لكن قبل ذلك عندي سؤال.
أي نوعٍ تقرأ؟
قبل شرائك لكتاب عن الكتابة يجدر بك معرفة إلى أي نوعٍ ينتمي، فهي بالعموم تقسّم إلى نوعين:
- كتب عملية:
في هذه الكتب تجد دروسًا متتابعة مباشرة مثل: كيف تكتب شخصية؟ كيف تبني عالمك؟ أي راوٍ تختار لقصتك؟ ملحوقةً بتدريبات وأمثلة نهاية كل درس. تمتاز هذه الكتب بإمكانية التطبيق المباشر للدروس وتشبه المواد العلمية، مع فرق عظيم في المتعة.
أمثلة كتب عملية:
- تقنيات كتابة الرواية، نانسي كريس.
- أدوات الكتابة، روي بيتركلارك.
- أركان الرواية، إدوارد فوستر.
- The anatomy of story, John Truby
- أدب الكتابة:
هذه الكتب أقرب إلى توثيق حياة الكتابة. تجد فيها الكاتب يحدثنا عن رداءة مسودة قصته وقصص بقية زملائه الكتاب، أو يخبرنا بضرورة خروجنا لعرض أعمالنا على واستقبال النقد للتطور. هُنا لا يعطيك الكاتب دروسًا تطبقها على قصتك، ولكن يعطيك عبر من حياتها، حياة الكتابة. أحب تسمية هذه الكتب، كتب جبر الخواطر لكن لا تأخذ بتسميتي لأنها تظلم فائدتها العظيمة.
أمثلة أدب الكتابة:
- درب الكتابة، رائد العيد.
- طائر إثر طائر، آن لاموت.
- مسيرتي في التأليف، ستيفن كينق.
أي النوعين أصعب؟
غالبًا أدب الكتابة أمتع وأسهل، عكس الكتب العملية التي تحتاج وقتًا وعدة قراءات لهضمها. لذا أنصح بالفصل بين الكتب العلمية وعدم التهامها مرةً واحدة. وإن كنت تبحث عن كتاب لتبدأ به فطائر إثر طائر (أدب الكتابة)، والحقيقة والكتابة (عملي)، ومسيرتي في التأليف (مزيج) ثلاثة أمثلة ممتازة للانطلاق.
حسنًا، بعد أن فهمنا الفرق بين كتب الكتابة، نفرغ لسؤالنا الجوهري، ليه اقرأ كتب عن الكتابة؟
هناك من وصل قبلك
تخيّل!
نحن لسنا أول الكُتّاب. أنت لست آدم الكتاب، وأنتِ لستِ حواء الكاتبات. فيه كُتّاب كثير حاولوا فهم “القصة” وما يجعلها جيدة أو رديئة وخرجوا بعد مئات المحاولات وعشرات السنوات بقواعد عامة. وكُتّاب ونقّاد معاصرين حاولوا ويحاولوا فهم تطور القصة حتى وصولها إلى شكلها الحديث.
وغيرهم كُتّاب لهم باع طويل في الكتابة، أحبوا نقل نتاج خبرتهم وما لاحظوه في حرفتهم.
لذلك الفائدة لا تغطى بغربال إن أخذت جزء مما وصل إليه من سبقك وحاولت تطبيقه على قصتك، خصوصًا إذا اكتشفت كتاب لكاتب يشاركك الذوق والمزاج الكتابي.
ومع هذا فالكتابة تجربة فردية، ومعنى هذا أنك يجب ألا تقتل الثوري داخلك. الثوري غير المهتم بالقواعد محب التجريب، ففي نصف العقدة تقرر بأن نهاية قصتك لن تأتي، وأننا سنعيش داخلها للأبد، لأن القصة مستمرة.
جرّب من فترة لفترة كسر القواعد ومحاولة الالتفاف حولها لأن العناد والتجريب توائم الكتابة، لكن لا تفعل ذلك قبل أن تتقن القاعدة.
إذن، لا تقتل نصًا حبكته غنية وفكرته مذهلة برواية سيئة وحوارات ركيكة وشخصيات مملة لأنك ترفض أخذ نصيحة من شخص كتب رواية وحبك حوار وبنى شخصية، ولا تكتب قصةً أكاديمية كل قواعدها صحيحة إلا أنها تفتقر إلى حرارة القصة النابعة من أسلوبك.
قد تكون لمحت الطريقة التي اقرأ فيها هذه الكتب في مقدمة المقالة. أنا لا أعاملها كمنهج دراسي يجب حفظه. هي ممارسات تصبح محفورة في مخيلتي تعينني على الكتابة، بل وتشكيل ممارساتي الخاصة مخلوطةً بممارساتهم.
بلا وعي
على الأغلب لن تقرأ كتب الكتابة مرة واحدة. شخصيًا، وبحكم عملي ككاتب إبداعي، تزين هذه الكتب مكتبي. فسواءً احتجت فكرةً تخص كتابة الإيميلات التسويقية، أو احتجت تذكّر معلومة لا تحضرني بخصوص كتابة الشخصية المضادة (ليس الخصم، إنما الشخصية التي تعزز شخصية البطل بإظهار الصفات المعاكسة له) أهرع لإحدى كتبي الـ 23 المصفوفة في مكتبي لأتبين ما أعوز تبيانه.
غير ذلك، فأنا أعود لأتصفحها من فترة لأخرى، وأعيد صياغتها في حساباتي على تويتر وإنستقرام، وهذا يساعدني في ترسيخها. لكني لا أحاول تذكرها أبدًا فمن المفترض -بالنسبة لي على الأقل- أن تظهر هذه المعلومات وحدها حين حاجتي.
بل تتحقق أعظم استفادة من كتب الكتابة لمّا أظن أن أفكار الكتاب هي أفكاري من فرط ما امتزجت ممارساتنا.
مليون كتاب، مليون رأي
يقول ستيفن كينق أن متعة الكتابة تُفسَد إذا عرف ما سيحدث، بينما رأى روي بيتركلارك أن التسويف الإيجابي (التفكير بالقصة قبل كتابتها) وكتابة سطور عدة عما تنوي روايته بل وكيف سترويها من أهم أدوات الكتابة، نصدّق مين؟
قبل ما نعرف نصدق مين، اقرأ هذه أيضًا: آن لاموت ارتأت وجوب حمل كل عمل رسالة ما، بينما يقول كاتبٌ آخر أن الاستمتاع بالكتابة مهما كان موضوع القصة هو المسبب الأول للكتابة الجيدة.
وبعدين؟
تطبيقي للطريقة في فقرة اللاواعي يعطيني نصف الجواب، فنهجي مع نصائح الكتابة المتضادة هو اختيار ما ينجح بأقناعي ككاتب.
في حالتنا الثانية على الأغلب سآخذ صف الكاتب الذي ينادي بالاستمتاع على رأي لاموت الذي لا أتفق معه، أما في الحالة الأولى سأقف محايدًا بجذعٍ مائل جهة بيتركلارك، فأنا أحب الحرية في العمل، ولكني أيضًا أرى ضرورة المنهجية، ولأنني أيضًا أرى كيف جعلت عقلية كينق كتاباته تفتقر للعمق بين حين وآخر.
أحيانًا، ممارسة الكتابة تكشف لي نفع نصيحة لا تعجبني. وهنا مربط فرس الكتابة (تخيّل الجسد جسد حصان والرأس آلة كاتبة):
بدون ممارسة لن تنجح، ولن تعرف قصصك وكيف تريد روايتها.
لو تتلمذت على يد دوستويفسكي، ونجيب محفوظ، والعقّاد، وماركيز، وفوكنر وكانت كتاباتك متقطعة حسب المزاج وجاء شخص يحسب هؤلاء رؤساء الاتحاد السوفييتي وأمريكا ومصر السابقين لكنه كان منهمك في الكتابة، راح يتجاوزك ولو كتب بيده اليسار وبعينين مربوطتين وبال مشغول مع شغلتين ثانيتين.
إذن، اختر ما يناسب شخصيتك وطريقة كتابتك من المليون رأي. وجرّب تطبيق النصائح التي لا تعجبك ولو مرة، علّها تكون شرٌ باطنه خير.
استئناس – خاتمة
أتذكر لمّا أنهيت كتاب طائر إثر طائر كيف كنت محاط بالألفة والود، كُتِب الكتاب في التسعينات لكن شعرت أن آن لاموت تكلمني شخصيًا خصوصًا في مقالتها الأعظم: المسودات الأولى التافهة.
كتاب لاموت في أغلبه يحكي قصصها الشخصية، وفشلها، وإحباطها، ورغبتها العارمة بالتوقف عن الكتابة، وشكها المستمر في نفسها وفي مهاراتها. مشاعر كلها أمر بها مع كل نص أكتبه، بل أمر بها الآن وأنا أكتب هذه التدوينة.
وأنا متأكد أن هذا شعور نتشاركه يا كاتب، مهما كان مستواك وكانت خبرتك ومهما كان ما تكتبه.
تتحدث في “مسودات أولى رديئة” عن شعورها بأن الموت أقرب إليها من إصلاحها لمشاكل مسودة أي عمل كتبته، تخيّل!
آن كاتبة رزقها الكتابة، وخبرتها فيها تمتد لعشرات السنين كتبت فيها الروايات والمقالات والمراجعات بل ودرّست الكتابة، رغم هذا تقول عن مسوداتها:
الأمر برمته طويل ومفكك وقبيح لدرجة أن تتملكني طوال النهار فكرة أن سيارة ستدهسني قبل أن أتمكن من كتابة مسودة ثانية جيدة. وأخشى أن يقرأ الناس ما كتبت ويظنون الحادث كان انتحارًا فعلًا.
كلام يبدو درامي جدًا لأي شخص يقرأه من بعيد، لكن نحن الكُتّاب الساكنين في قلب العاصفة نعرف واقعيته.
الكتابة مهنة وحيدة، وهذا حسن في وجهة نظري، فالعزلة والكتابة أعز الأصدقاء. إلا أن في هذا الانعزال وحشة وتشكيك وقلق قد تدك روحك دكًا. لذا رؤية كُتّاب متمرسين يشاركونا تجربتنا يخفف عنّا وحشة الطريق ويرينا شيوع مشاكلنا وتوفر حلولها، بل واستطاعتنا تطبيقها على حالاتنا التي ظنناها، بكل غرور، خاصةً بنا.
فمن أهم ما تخبرنا به كتب الكتابة في وجهة نظري هو نحن لسنا وحدنا، كما رد أحد الأطفال على آخر في محادثةٍ أسطورية وهم جلوس في غمارة ونيت.
شكرًا جزيلا على هذا النص الجميل👏
تدوينة استمتعت بكل سطر فيها.