تدوينة

ملل إبداعي

في المرحلة الثانوية كان عندي صديق لمّا يستلم دفة قيادة الحكاوي نشعر أن الموت أقرب لنا من نهاية حكايته.

كان يشد ظهره، ويتلحف يسراه بيمناه ثم ينومهما فوق بطنه المنتفخة، ويتنفس بعمقٍ قادر على معالجة نوبات الذعر كلها ثم يتكلم بسرعة تسع كلمات في الدقيقة مع وقفات طويلة تتخللها نظرات وابتسامات لا يبادلها إياه أحد.

اعتاد التصرف وكأن وقت الجلسة ملكه وحده، والأهم أنه كان مضجرًا محبِطًا خصوصًا في فسحة الخمس دقائق التي لا تكفي للمحادثات الطبيعية أصلًا.

هذا النوع من الضجر يسحق الروح ويهد الحيل، أما الملل الذي سأتحدث عنه هو ذاتي وروتيني، لا علاقة له بمن حولك أو بالمهام المزعجة هادمة المزاج.

والملل والضجر ليسا مترادفين فالأول محايد ومرتبط بالرتابة، والثاني سلبي وأقرب إلى ضيق النفس والزهق.

يرتبط الملل بالروتين دائمًا، وروتيني كالجميع؛ ممل ويشوبه تعدد المهام، أسوق واستمع لبودكاست، أمشي وأسمع أغاني، أغير ملابسي ونورم ماكدونالد ينكّت في الخلفية. وهذه الأفعال ليست مشكلة بحد ذاتها. فمن يريد أن يموت مللًا، ولو للثواني التي يغير فيها ملابسه؟

لكن هل خطر على بالك ماذا يأتي مع الموت مللًا؟

مرة أخبرني صديق عزيز في لحظة من لحظات هل نحن وحدنا:

“يا أخي تصدّق؟ ما أعرف متى آخر مرة سمعت صوت مخي، حتى وأنا أغير التي شيرت لازم أشغّل مقطع!”

كان يقصد أنه منذ سنوات لم يقم بمهمة بسيطة في هدوءٍ تام تاركًا لعقله فرصة التجول نصف واعٍ. ما قاله كان له صولات وجولات في عقلي. وبعد سنتين من ذلك التفكر الخالد أصبحت أحاول ترتيب يومي في ضوء مقولته (يا رب ما يقرأ التدوينة عشان ما يزعجني).

تدعي بعض الروايات أن الأفكار تسبح في فضاء الخيال وتتخير العقول التي تناسبها، ما أعرف إذا كنت أصدق هذه الروايات لكن دراميتها تعجبني، وعمومًا سواءً كنا نختار أفكارنا أو هي تختارنا، كيف تصل الفكرة لعقلٍ مشتت لا فسحة فيه لها؟

أعرف أن الموضوع ما هو فيزياء، القيادة وحدها مملة لذلك تحتاج الاستماع للموسيقى، أو لحلقة بودكاست، خصوصًا والبودكاست يعرف يخادع المستمع بتحسيسه بالإنجاز واستغلال الوقت، أو حتى تجزية الرحلات الطويلة بمقاطع فكاهية للكوميدي المفضل، ونفس الأمر ينطبق على باقي الأمور الروتينية فمن ذا المختل الذي ينظّف بيته دون تشغيل مقطع يوتيوب بطول مهمته؟

بالنسبة لي التزامي بإنجاز الأمور الروتينية حاف دون مسليات كانت نتيجته مللًا مولدًا للكثير من الأفكار الإبداعية العظيمة والسخيفة التي لو قضيت الساعات الطوال في تفكير مركّز ما استطعت الوصول إليها.

عند التزامي بفكرة أداء المهام في صمتٍ ممل، أجد التسلية التي كنت أبحث عنها في عالمي الخيالي مع فرقين أساسيين:

  1. أنها ليست فورية وسهلة كمقطع يوتيوب أو أغنية.
  2. أنها أفود؛ فهذه الأفكار تصبح بذرة قصة، أو مقالة، أو نص.

لا أدعي دوام مواظبتي على هذا الروتين أو مناسبته للجميع، خصوصًا وعملي ككاتب إبداعي يستدعي هذه اللحظات المملة التي تخدّر وعيي وتأخذني في دهاليز سرية لمنجم يخبئ الغالي والنفيس، ولكن أجزم أن الأمر يستاهل تجرّبه ولو مرة.

الآن قول لي أنت، متى آخر مرة سمعت مخك؟

‫2 تعليقات

  1. جميلة تدوينة الملل الخلاق، وتدعوا في طياتها للتأمل في طبيعة عمل العقل البشري ولماذا يقذف الأفكار العشوائية من مستويات اللاوعي. تعجبني كتاباتك وأسلوبك الكتابي فريد من نوعه، شكراً لك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى