من 5 لـ 9
ورغم الابتسامة العملاقة على وجهي، كانت أعصابي مشدودةً حد الفزر لو لُمِست، وفي رأسي ضجيجٌ بلا لون يمنع الأفكار كوميض يعمي العين.
![](https://mohamadwrites.com/wp-content/uploads/2023/08/8H6A2890.jpg)
اقتربت من الجملة الختامية، أشعر بتحفزٍ عظيم، وتوترٍ أعظم. هل أديت مهمتي على أكمل وجه؟
الصراحة ما أعرف وأميل إلى “لا، قصّرت” أكثر من “نعم، ما قصّرت”.
حدث هذا في الحصة الرابعة، صف ثاني ثانوي، مادة المهارات المهنية. كنت أقدّم محاضرة -حد تعبير أستاذ المادة- عن موضوع من اختياري لضيوف زاروا مدرستنا، مدرسة الملك عبد العزيز الثانوية بمكة.
بعد انتهائي من “محاضرتي” كانت جبهتي متعرقة، وصوتي مرتعش، ويدي تقبض على قلم السبورة بضغطٍ لا أدري كيف لم يكسره. والضغط على أي شيء بيدك بينما تلقي خطابًا حيلة نافعة علمني هي أبي.
كان الفصل البارد مظلم، فلم أستطع تبيّن وجوه الطلاب أو الزوّار أو معلمي. تُركت في الظلمة، حرفيًا ومجازيًا، أفكّر بما قدّمت. بهت وهج التحفز وتصاغرت موجة الأدرينالين في انتظاري لرأيٍ واحد يخبرني عن أدائي.
كان هذا قبل ثمانية أعوام، وفي الأسبوع الماضي، قدّمت بالتعاون مع شركة كولاج دورة “كتابة المدونات” في أكاديمية إثراء ومررت، بشكلٍ أو بآخر، في الأكاديمية بتجربة شبيهةً بتجربتي في المدرسة.
اليوم الأول
بعد عدة أشهر من الإعداد والتجهيز رفقة الرائعة آلاء الخميس، مديرة المحتوى في كولاج، وبعد تبادل الأفكار الإبداعية ومحاولة الخروج بأفضل تجربة ممكنة. وبعد العديد من المراجعات والتحرير والكتابة. والرفض اللطيف لبعض شطحات كاتب هذه السطور، والموافقة المفاجئة لبعضها الآخر. اكتمل المحتوى الذي كان عبارة عن مادة علمية ومحاضرات.
إحساسي كان غريبًا لمّا اقترب وقت التقديم، في دورة إثراء وفي محاضرة الفصل، فرغم استعدادنا أنا والمحتوى، وتدوين النقاط، وتجهيز المكان، وحضور الحضور (أعتقد بالنسبة لطلاب الفصل، ما كان عندهم خيار ثاني) ورغم جميع المعطيات، شعرت بنقصان شيءٍ ما.
ولكن الجرس رن، والدورة بدأت، ولا يهم ما نقص فنحن انطلقنا.
في الساعة الأولى من الدورة نتناقش بخصوص موضوع اليوم تحت إدارة آلاء بمساعدة مثيراتٍ هي عبارة عن أسئلة ومقاطع فيديو معدّة لتحرّك عجلة الأفكار. كان من المدهش رؤية النقاشات تقودنا دائمًا إلى موضوعات المحاضرة التي سأقدمها في الساعة التالية.
ثم في الساعة الثانية كانت المحاضرة، نتجه إلى غرفةٍ طولية متقوسة تُسمى المجلس، تطوق المجلس كنبةٌ بألوان زاهية، وتقابلها شاشة عملاقة بجانبها وقفت وتحدثت، مرةً رأيت المتدربين وأخرى تلبسهم طلاب الثانوية.
وفي ساعتنا الختامية، ساعة التدريبات، ينتهي الكلام وتتحرك الأقلام. فنكتب ونكتب محاولين تطبيق ما سمعناه أول ساعتين، ثم نناقش ما كتبناه لنختم البرنامج.
وهكذا يسير برنامجنا، من الخامسة للتاسعة مدة ثلاثة أيام.
اليوم الثاني
في هذا اليوم دون بقية الأيام سألت الفريق المنظّم أكثر من مرة عن المحتوى المقدم، فرغم أن إضاءة المجلس في إثراء كانت أسطع من إضاءة فصلي في المدرسة عجزت عن قراءة ردود الفعل على وجوه المجموعتين.
أما الساعة الثالثة فجاءت كالمسكن. بدى الجميع متفاعلًا، وجواب الفريق كان إيجابيًا بخصوص المحاضرة، وذاب الشك داخل حماسي لرؤية نتائج التدريبات. فقلت لعلّه شيطان يابو حميد، وأكملت يومي عادي.
اليوم الأخير
عندي سؤال، كيف نقيس الفائدة؟
أجد نفسي مهووسًا بهذا السؤال عند أي لقاء أو ورشة أقدمها، خصوصًا حين اقتراب النهاية. ودورات الكتابة ولقاءاتها بالذات صعبة القياس.
عندما كنت مدربًا في مسابقة المهارات الثقافية قسنا الفائدة بالاستمرارية، فالطلاب من المراحل الثلاث غير مطلوب منهم إلا خوض غمار الكتابة وألا يتركوا أقلامهم تجف. وهذا ما حدث، فاليوم طلابي، عندهم حساب نشط ينشرون فيه كتاباتهم في انستقرام، وهذه بداية جدية آمل أنها تتنبأ بأشياءَ أعظم.
هذا السؤال، بالإضافة إلى رشة قلق ومحاولات فاشلة لقراءة الانطباعات، تحول لهاجس في إثراء وفي الفصل، ولعله أشغلني أكثر من اللازم في اليوم الثاني.
لكن في اليوم الأخير، خصوصًا بعد المحاضرة -اللي كانت محاضرتي المفضلة لأني عرضت فيها أمثلة من المصارعة- هدأت شياطيني وركزّت على إكمال الدورة.
قبل ثمانية أعوام / الأسبوع الماضي
لما انتهيت كانت طبقة من العرق تقنّع جبهتي وتغمر راحة يدي، اخترت موضوعًا عن كيفية تغير حياتك نصف معلوماته ترجمتها ترجمة رديئة من الإنجليزية والنصف الآخر هبد شخصي، وقدّمت “محاضرة” مبتذلة أكثر من رف مليء بكتب تطوير الذات.
ورغم الابتسامة العملاقة على وجهي، كانت أعصابي مشدودةً حد الفزر لو لُمِست، وفي رأسي ضجيجٌ بلا لون يمنع الأفكار كوميض يعمي العين.
رن الجرس معلنًا انتهاء الحصة، تجاوزني أغلب الطلاب، ورمى أصدقائي كلمةً أو كلمتين بعضها تشجيع وبعضها سخرية ودية. وشكرني على الإلهام طالب اعتاد الجلوس في الزاوية المظلمة آخر الفصل، كباتمان.
شعرت برضا وراحة في المرتين، لمّا استمتع باتمان الفصل بالمحاضرة، وبعد محاضرة اليوم الأخير لمّا استمتعت بتقديم المحاضرة حد أني نسيت، للحظة، أين كنّا.
وبعد أيام من انتهاء الدورة، نظرت إلى كل شيء بنظرةٍ موزونة أكثر وحددت الأشياء التي بدّعت فيها والأشياء التي خبّصتها. وكانت نظرتي للدورة إيجابية، وقبل عدة أيام عرفت أن حاضري الدورة متفقين معي. فالحمد لله.
ما زال إحساس “تقدر تسوي أحسن!” يلازمني في كل عملٍ أقوم به، وما زلت مقتنعًا أننا كلنا نقدر نتطور ونتحسن دائمًا. لكني سأحاول فقط أن أرى الموضوع من وجهة نظرٍ أقل ملامةً وقلقًا.
شكرًا للمتدربين الرائعين على الإلهام. شكرًا لأكاديمية إثراء على الضيافة الحاتمية والتجهيزات الأسطورية، وخصوصًا سارا -المشرفة البديعة على دورتنا- شكرًا لكولاج على الثقة والدعم المستمرين. وشكرًا لباتمان الفصل، فبعدما تذكرت كلامه كانت كتابة هذه التدوينة عملًا يسيرًا :).
تدوينة جميلة، استمتعت باختبار شعورك كمقدم للدورة ورؤية منظورك الخاص.
هذه التجربة “كمقدم” تلامسني كثيرًا، فقد عملت على إعداد وتقديم الكثير من ورش العمل في السنوات القليلة الماضية، وكنت دائمًا ما أتذكر محاضراتي التي قدمتها في المدرسة وأنظر لها بحب، وسعدت بوجود هذا الربط في تدوينتك واكتشاف ما شعرت به تجاه تلك المرحلتين وما بينها من مفارقات.
النظر إلى الوجوه، إخراج الكلمات من بين الشفتين في نظم مفيد، الوقوف بانتصاب بوجه مبتسم.. وكل ما يلزم لإبقاء المشاعر والتوتر بداخلك وإعطاء قيمةٍ ما في ذات الوقت، أمر يتطلب طاقة عالية والكثير من الضبط والجهد، أقدر وأحترم ما تقدمه كثيرًا يا محمد.
شكرًا لمشاركتنا ما يدور في داخلك عبر هذه التدوينة.
وشكرًا لباتمان.