اكتناز الكتب
القراءة أداة توصلنا إلى العلم (ومن الممكن أن تكون أداة للمتعة، لكنها ما زالت أداة). مثلما أن الكتابة أداة نعبّر فيها عن أنفسنا وآرائنا.
اليوم لا أملك مقدمة، خلّيني أدخل في الموضوع مباشرة.
وفجأة برَز تصريحٌ غريب من أحد الجالسين الأكبر منّا سنًا. نفخ صدره ونظر إلي بثقةٍ وكأنه يُطالع أحدًا تحته رغم توازي عينينا:
- أنا قرأت 500 كتاب!
كنّا قد تحدثنا عن الأدب والكتب قليلًا، وكنت الكاتب في تلك الجلسة لذا لم استغرب توجيه نظره لي، ما استغربته هو طريقة تعبيره.
في الفترة الطويلة التي عرفته فيها لم أسمعه يذكر كتابًا واحدًا ولو عرضًا وهذا أمر شديد الغرابة من شخص قرأ هذه الكمية، مما دفعني لسؤاله سؤالًا لا يخلو من خبث:
ممكن تسمّي لي اسم كتاب واحد قرأته؟
- كتب كثيـــيـــــــــــــــرة ما أتذكرها.
ابتسمت وهززت رأسي الممتلئ بالنكت التي اكتفيت بإلقائها على نفسي، وارتضيت بضحكاتي الخفية داخلي وسرعان ما انتقل الحديث إلى مواضيعٍ أخرى.
سبب تهكمي ليس ظنًا بأني أرفع منه لأني كاتب أو قارئ، وليس لأني أظن أن فعل القراءة وحده يجعل شخصًا أعلَم من آخر، فمن يفترض ذلك في عصرنا الذي تتعدد فيه مصادر التعلم لا يثبت إلا جهله. بل هو نابع من طريقة ومحتوى التصريح، وكأنه سيرتفع مراتب مجازية وحرفية بادعائه هذا. والغريب أنه يطرح رأيًا عامًا جدًا، أو خاطئًا جدًا، ثم يدلل عليه بقراءاته الغامضة فيقول:
- تستحيل الكتابة على الكاتب التعيس، إذا ما دخّن، ونام، وتعشى، وكان رايق. مستحيل يكتب كويس لو يؤذن. أقدر أعرف مزاج الكاتب من قراءتي له.
عند استشهادي بدوستويفسكي وكافكا كأدلةٍ تنقض حجته، تساءل من يكونوا قبل أن يتنفّس الصعداء لمّا قلت له أنهم كتّاب رواية، فهو -طبعًا- لا يملك الوقت لقراءة هذا النوع من الكتب.
ما زال تصرفه يحيّرني خصوصًا وهو، باعترافه، لا يكتب. لكنّي أريد الانسلال من ضيق الادعاء الشخصي إلى فسح الحالة العامة. فالتبختر بعدد القراءات حالة شائعة عندنا؛ يقول الشخص رأيًا وهو يظن أن عدد الكتب يزيد وزنه، والله لو أنها بيتزا!
ما فائدة القراءة إن لم تعد تتحدى معرفتنا، وتكسبنا معارف جديدة، وما باتت رأيًا معارضًا يصبح رأينا الجديد، أو مصدرًا يضيف إلينا شيئًا إلى مجرد أداة لمداعبة غرورنا؟ وهل تحوَل الكتب الصفاقة حصافة؟
أظن طبيعة الكتب الرصينة وصورة القارئ النمطية تجعله يبدو كشخصٍ يملك رأيًا سديدًا، بينما القراءة إنما هي الأساس الذي تبني عليه، وما زال عمران الفهم ناقصًا يحتاج رأيك وتفكيرك ليكتمل.
أريد أن أضرب بوظيفتي مثالًا:
ككاتب محتوى، من الدروس المهمة التي تعلمتها: ألا يجعل الكاتب نفسه مجرد متلقي؛ يخبره العميل عن ميزات المنتج، ثم يعيد صياغة ما قاله في جملة تسويقية، وصلى الله وبارك. بل يجدر به الموازنة بين “الملاحظة والحكم” فيلاحظ ويستمع، وفي نفس الوقت يحكُم ويقيّم المنتج حتى يستطيع أن يُخرِج نظرته الخاصة عنه.
خطوة الحكم هذه مهمة جدًا، ودونها يتحول الكاتب إلى ببغاء خالٍ من الإبداع يجيد إعادة صياغة الجمل وسيحل الذكاء الاصطناعي مكانه في السنين القليلة القادمة. ينطبق هذا الكلام على القرّاء أيضًا.
القراءة أداة توصلنا إلى العلم (ومن الممكن أن تكون أداة للمتعة، لكنها ما زالت أداة). مثلما أن الكتابة أداة نعبّر فيها عن أنفسنا وآرائنا. قراءتي لخمسمئة كتاب لا تجعل رأيي صحيحًا، بل تضعني في مكان المدافع، فأين “وزن” هذه الكتب حينما أدعي أن مئة عام من العزلة رواية رديئة؟
ولو نظر إليك شخصٌ في نفس طولك من برجِ عاجي، وتبجح بأنه القارئ الذي أنهك رفوف المكتبات أرجوك صفق له بدراما مفتعلة، واجعل عينيك تلمع فخرًا إن استطعت وقل له بحماس “أنتَ كيف يا أخي!” وراقب كيف يرتبك، فحتى هو يعرف في أعماقه أن ادعاءه لا وزن له.