ثقل الكتابة
في كثير من الأحيان، وجدت نفسي اتغصب على كتابة الجزء التالي من الرواية. رغم أني مهتم لمعرفة ما سيحدث للشخصيات
بدأت أكتب روايتي -في شكلها الحالي- قبل ثلاثة أشهر تقريبًا، وهذه المرة مررت بتجربة أوضح من التجارب السابقة، إذ كانت هُناك طريقتين منفصلتين وواضحتين تناوبت بهما على معالجتها:
- إما أن ألتزم بروتين ثابت؛ أكتب كل يوم نفس عدد الكلمات في نفس الساعة لنفس المدة حد أن الأيام تصبح رتيبة متشابهة.
- أو تأتي كتابتي متقطعة حسب الظروف سواءً عمل أو سفر أو ظروف عائلية وشخصية. فتصبح الأجزاء، رغم شحها، منعشةً تروي عطش الكتابة.
منذ بدأت كتابة الرواية -في ديسمبر 2022- جلست ما يقارب المئة وخمسين مرة لأكتب جزءً جديدًا، بعض الجلسات نتج عنها مشاهدًا تركتني مذهولًا أراقب يدي متعجبًا وفي بعضها الآخر تمخض الجبل فولد فأرًا.
وأنا لا أريد بهذه التدوينة تأريخ فترة كتابتي عن الرواية، فما زلت اليوم أقف عند خط نهاية المسودة الأولى والطريق لعملٍ مكتمل في أوله، لكني أريد نقل تأملاتي عن التجربة سواءً في الرواية أو القصص والمقالات والتدوينات التي نشرتها في هذه الفترة.
تختلف الطرق والنتيجة واحدة
كما ذكرت سابقًا، مريت بفترتين مختلفتين اختلاف جوهري. ولاحظت، كما عرفت من عنوان الفقرة غير الذكي، عدم وجود أي اختلاف يُذكر في مستوى ما أكتبه سواءٌ كنت ملتزمًا أو أنتظر مواتاة الفرص.
هناك اعتقاد خاطئ مضر بين بعض الكتاب وهو أن الإلهام والكتابة من المعاناة وتقطّع القلب هي الطريقة المثلى لإخراج كاتبٍ أسطوري، والاستشهاد في هذه الحالة دائمًا ما يكون بدوستويفسكي، رغم أن تولستوي، الذي عاش ومات غنيًا، كان يضاهي دوستويفسكي ولم يحتاج إلى الاقتراب من الموت كالأخير حتى يخرج بأعمال خالدة، وفي ظني أن الكاتب بقوله هذا، هو يبحث في الحقيقة عن محفزٍ للكتابة ينوب عن الالتزام الذي لا مجد ولا دراما ظاهران فيه.
وغير المعاناة، لا يجب الخلط بين الدراما في المكتوب والكتابة بدراما؛ لا تغفل عن التهيؤ الذي يتسلل خارج قلمك فيحول بينك وبين إنجاز قصتك، وتذكّر أن مقابل كل فنان مشرّد جائع فنان آخر لا يقل عنه إبداعًا أنجز عمله على كنبة مريحة داخل غرفةٍ باردة وفي بطنه لقمةٌ دافئة، فالظروف العسيرة هي، صدق أو لا تصدق، همٌ إضافي يحول بينك وبين إنهاء قصتك.
وأما الإلهام، فهذا موضوع قتله الناس بحثًا ورأيًا وتفنيدًا لكن أكتفي بسؤالك:
كم مرة هذه السنة أتتك حالةٌ من الإلهام الخالص التي جعلت حبر قلمك يسيل كأنه طوفان نوح؟
طيّب، إيش رأيك تقوم تكتب بدل انتظار شيء ما يجي إلا في السنة حسنة؟
إبليس ما يبغاك تكتب
في كثير من الأحيان، وجدت نفسي اتغصب على كتابة الجزء التالي من الرواية. رغم أني مهتم لمعرفة ما سيحدث للشخصيات، ومعنى القصة لامسني جدًا حد أني خلال خمس عشرة دقيقة أجد نفسي منسجمًا في عالمها وكأني واحدٌ من شخصياتها.
أؤمن أن في رحلة كتابة الرواية الطويلة يجب أن يصنع الكاتب الإلهام لا أن يبحث عنه، والكتابة بالعموم مثلها مثل بقية الأعمال العظيمة، حجمًا ومعنىً، تستفز في الإنسان شعورًا سلبيًا مرتبطًا بالكسل أو الخوف. الكسل من حجم المهمة والخوف من أنك بعد كل هذا الجهد الجهيد ستكتب عملًا تافهًا.
حل الشعور الأول هو تقسيم العمل إلى أجزاءٍ صغيرة وعدم التفكير به كعملٍ عملاق يتطلب منك شهورًا لتنجزه. خذها حبة حبة، اليوم ننتهي من جزء الافتتاحية ونعرّف القارئ بالبطل المتعلّق بأمه تعلقًا مرضيًا، ولما يجي بكرة نفكّر بكتابة المشهد اللي تموت فيه أمه، بهذه الطريقة وبعد عدة أشهر سنتفاجأ، بسذاجة تليق بالكُتّاب، بأن في يدنا رواية. وهذا يأخذنا للشعور الثاني.
حل الخوف من الكتابة برداءة هو التسليم برداءتها. مسودتك الأولى رديئة كمسودتي وكمسودة الكاتب كورت فنجت الذي قال بروعةٍ لا تضاهى:
يجب علينا القفز من على المنحدرات باستمرار، واكتساب أجنحتنا في طريقنا للأسفل.
ثقل الكتابة
أحب الكتابة مرة، وهذا شيء لا أرى بدًا من التصريح به قبل تصريحي الأكثر جدلًا وهو أن الكتابة ثقيلة. هي ليست مشاهدة مقطع يوتيوب، ولا الاستماع لأغنية تحبها، ولا حتى قراءة كتاب.
الكتابة شيء أصعب، شيء له علاقة بالاختلاق والتشكيل. شيء أحيانًا ما لك نفس تسويه، لأنك مهلوك من الدوام اللي ما قدرت تخرج منه إلا بعد خمسة ونصف -مع إن مكتوب في عقدك الانصراف الساعة الخامسة- أو لأن مزاجك عكرته مكالمتك مع عمك الاتكالي، أو لأنك كلمتِ أمك بنبرة متعالية غير مقصودة جعلتك تندمين، أو لأن الهلال ضيّع مباراة سهلة والأعصاب تالفة.
حب الكتابة وثقلها لا يتعارضان عندي، ودليلي على عدم تعارضهما هو انتاجيتي الجيدة، فحتى في أكثر أيامي انشغالًا كنت بعد الفراغ من جزء الرواية اليومي اكتب قصصًا كـ شهرزاد في خط الرياض وتدوينات كـ ليه اقرأ كتب عن الكتابة؟ أما حل الثقل فهو بالتأكيد لا يختبئ خلف فكرة غامضة كالإلهام أو المعاناة وبقية الكلام المبهرج الفارغ.
ولكن الحل هو أن تقوم دائخًا من غفوة بعد الإفطار في ليلةٍ رمضانية مرهِقة عاطفيًا وجسديًا ومهنيًا وفي يديك كوب قهوة وشوكلاتة وتنظر لصفحة الوورد بعينٍ ناعسة ثم تأخذ نفسًا عميقًا وتشيح عنها، وبعد نصف ساعة من التسويف تأخذ نفسًا أعمق وتقول قبل أن تعيد كتابة الجزء الذي حذفه الوورد العبيط رغم رغبتك بطعن عينك بحافة شاشة اللاب توب على أن تكتب كلمةً واحدة:
يلّا حبيبي، بلا دلع، أكتب وبطلب لك بيتزا بعد ما تخلّص.
أو بتعبير آخر كريه رغم أهميته، الحل هو الالتزام رغم كل الظروف، لأن هُناك قصةً لم تروَ بعد، قصةً لا يستطيع غيرك روايتها، قصةً ستحترق إلى الأبد لو لم تلتزم بروايتها.