اليوم 1 يوليو، جاء الصيف، واتمام ساعة المشي اليومية صار نشاطًا لا يُطاق. أفكر أتوقف عن المشي إلى الشتاء. لا.. الشيء الوحيد الذي يحول بيني وبين التحوّل لبرميل هو ساعة المشي هذه. والحقيقة أن مراقبة الناس رياضتي المفضلة.
في الصيف على وجه الخصوص.
أتفحص الوجوه الذابلة، والأخرى الحانقة، والثالثة المقاومة. رغم انتهاء وردية الشمس منذ ساعة إلا أن الأرض ما زالت مشتعلة، والأنفس ضيقة، والأنفاس حارة، ومحلات العصير منتعشة، وكل شيء رطب وملتصق.
ارتفع متوسط مرات الضرب على البوري كما ارتفع متوسط مدة الضغط عليه. وارتفع عدد الشتائم والشاتمين، واضمحل أدب الشتيمة، وانخفضت نسبة رد السلام إلى نسبة لا ترضي غير إبليس، وتم الاكتفاء برفع الحواجب حتى تنخفض الحرارة.
كنّا كمساجين، أو مجانين، في ساحةٍ مسيّجة.
وبينما أقطع السكة مشغولًا بمراقبة الوضع الحالي كادت تقتلني سيارة. عدت خطوة ونصف إلى الوراء بينما تلاقت عيني بعين سائقٍ في سن أبي. لمحت فوق رأسه تاريخًا منقوشًا بالأحمر القاني، هل أهذي من شدة الحر؟
فور خروجه عن مرمى عيني دخل في حادث مروري. لا.. لم يكن حادثًا عاديًا ينتهي بنسبة خطأ يُعيّنها موظف نجم. كان من نوع الحوادث المتبوع بثلاث أسئلة. لم ينتبه قاطع التقاطع إلى الشاحنة الطائرة المفاجئة عن يمينه. وقفت مشدوهًا أمام الجثة.
الله يهديه لو أنتبه لطريقه بدل حدج الناس بنظراته. عدت إلى المنزل أفكر بتاريخ اليوم المنقوش فوق رأسه، أكان هذيانًا أو خدعة بصرية أو…؟
نقرت قبضة باب بيتنا بيدي وأنا مشفقٌ من سخف خصامي مع أبي. وإذا طلب مني التوظف في مدينتنا؟ كل أبٍ يريد أبنه بجانبه، طبيعي. الآباء عاطفيون، هذا طبعهم، خصوصًا أبي الذي يعيش وحيدًا منذ طلاقه لأمي، وأنا كرجلٍ ذكي كان يجدر بي التسليك بدل المراددة. فتحت الباب وفي نيتي قول ما يُقال وتقبيل ما يُقبّل للظفر بسماحه.
لا شيء في الحياة يستطيع تجهيزي للمنظر الذي قابلني!
ركضت إلى الحمام بعد وقوفي متصلبًا أمام أبي لبرهة، كان يتصفح هاتفه ليتجنّب النظر إلى وجهي. غير مدركٍ أنّي انشغلت عنه بالتاريخ المنقوش فوق رأسه. ارتميت على حوض المغسلة كأن رأسي يحترق. غسلت وجهي وغسلت وغسلت ورأسي مدفونٌ في الحوض وصدري يرتفع وينخفض وعيني تريد نسيان ما رأته.
عدت لا أجرؤ النظر إلى أعلى من قدمه. ظن أن خجلي من نفسي هو المانع، وعجّل برضاه هذا التذلل الذي افترَضه. لو يدري..
- أيش فايدة الاعتذار إذا بتنقلع الرياض أول ما تخلص الجامعة؟
- ما راح أنقلع ولا مكان. أنا قاعد هنا بجنبك.
قصدت جنبه حرفيًا، أي لصيقه، أي الفخذ تمس الفخذ، وطيلة الأسبوع التالي وأنا لا أفارقه.
- يا ولدي، لا تخاف عليّا، ربي الحافظ.
المسكين يخاف علي. يظن الحادث جعلني أتعظ. لا يدري الحقيقة ولن أخبره. لم أنظر إلى عينيه من ذلك اليوم. جلسنا جلساتٍ عذبة حتى يوم وفاته، عرفت فيها أشياءً كثيرة لم أعرفها عنه.
ضاق بي عدة مرات.
- تراك غثيتني، روح شوف لك شغلة!
لكنّي أبيت التزحزح. جلست بجانبه مترقرق العينين كأني أخدم مسنًا لا يقدر على خدمة نفسه. لمَ الهرب إلى تشبيه؟ بل أنا أبنٌ يجالس أباه الذي سيموت بعد أقل من سبعة أيام.
أخبرني في ليلةٍ صافية جروحه كلها، انتهاءً بجرحه الأكبر الذي لم يندمل منذ 25 سنة.
- تخيل يا ولدي إنه طلَب مني أرجع من وظيفتي في الرياض، بدون أي سبب.
لم يبدُ مدركًا للحقيقة، كأنه معمي عما أمام عينيه أو اختار العمى. ألا يرى أنه يعيد ما فعله أبوه في أبنه؟! أهذا دأب كل الناس؛ أعمياء عما هو أمام عيونهم؟
تشاركنا في تلك الأيام القليلة ذكرياتً لم نتشاركها في العشرين السنة التي سبقتها. وفي ليلة موته، لم أقدر الجلوس معه بل بقيت أبكي تحت فراشي طول اليوم.
ثم أحسست دفئًا آتٍ من جهة رأسي تلاه همسٌ أكثر دفئًا.
- يا ولدي، إذا صاحي تعال أجلس معايا شوية، أعوذ بالله ما جاني نوم.
بعدها بساعة، كنّا نضحك ونتسامر، لم يتغلب على رغبتي العامرة في البكاء إلا رحمتي بالرجل الرقيق -رقة اكتشفتها متأخرًا- ومسؤوليتي تجاهه بالإضافة إلى رغبتي بخلق ذكرى حلوة لا أنساها.
وفي العزاء، كان المعزون يبكونه فزعًا، وكنت أنا الوحيد الملعون بلعنة الحزن والمعرفة.
ثم مرّت الأيام، وعدت إلى رياضتي المفضلة.
تطورت رياضتي؛ صرت أمشي وأتوقع التواريخ المكتوبة فوق رؤوس الناس ثم أرى نتيجة توقعي.
أرعبني توقعي الصحيح لموت طفل، وزادني رعبًا موته هذه السنة. وحسدت طفلًا لما رأيته سيُعمِّر حتى 2120م. وأكثر ما أحزنني تاريخٌ فوق فتاة صارخة الجمال، كانت ستموت خلال أشهرٍ قليلة، ولكن لمّا وقف زوجها بجانبها تحوّل حزني إلى غبطة، فزوجته ستموت وهي في ريعان شبابها وتبقى ذكرى حلوة لا يشوّبها الزمن.
كان المنظر لا يُصدّق، يمشي الجميع وفوقهم تاريخ يحدد موتهم. ولا أحد منهم مدرك أنه قد يموت قريبًا، أقرب مما يظن، وبدل تجزية الوقت مع أحبابه هو في طريقه إلى الدوام، أو في مشوارٍ يظنه مهمًا.
وحده من لا يغيب الموت عن ناظريه يرى القيمة الحقيقية للأشياء. وحدي أنا من أرتقي درجةً فوق هؤلاء الناس. عيني تعطيني صبرًا وحكمة، أصبح لا أرد إلا بحليم الكلام. واكتسى وجهي بقسمات الصالحين.
وأصبحت لا أتأثر بالموت. قدمي أصلب قدمٍ أوقات العزاء، وقلبي ثابتٌ لا يزعزعه شيءٌ تافه زال عنه الغموض الذي طالما اكتنفه.
- وش عندك تناظر؟
ابتسمت بكياسةٍ وسلّمت، ولكنه شد راحته حول معصمي والأخرى حول قميصي حتى كدت أسقط.
- يا أبن الحلال صل على النبي.
في لحظةٍ رأيت سكينًا، وفي أخرى أطلقت قدمي إلى الريح، وفي ثالثة كنت أمام باب بيتنا. رغم انتفاء الخطر ما زالت وخزةٌ تحرق صدري. لم يمسني الرجل بأذى بيد أني أشعر روحي تنازع. ألمٌ فظيع في قلبي. دخلت الحمام وغسلت وجهي.
كنت قريبًا من الموت. أضحكتني الفكرة، أيموت من يرى تواريخ الموت قبل قدومه؟ أيموت الإنسان الذي هزم الموت أخيرًا؟ ما بال هذا الألم في قلبي لا ينطفئ؟
يصعد الوخز من قلبي إلى وجنتي اليمنى كطنين الذباب، فأرفع رأسي لأرى إن كنت مصابًا بطعنةٍ لم أحس بها.
أنظر إلى وجهي، اتصنم، أتعرّق، روحي تنهار، وشريط حياتي كله يمر أمام عيني. كيف لم أنظر لوجهي قبلًا؟ ماذا حال بيني وبين التأكد من تاريخ موتي؟ أتذكر انشغالي المحموم بالشارع، ومشيي المتواصل، وأتساءل إن كان انشغالًا مقصودًا. أمام عيني تاريخٌ منقوش، 19 يوليو.
يا للمفارقة.