في صباح يوم الثلاثاء 16 مايو دفعت الباب لأدخل فندقًا وقفت بجانب بابه لوحة كحلية تتجاوزني طولًا كُتِب عليها: مسابقة المهارات الثقافية.
في ساعة دخولي الأولى لبهو الفندق لم أرَ سوى أطفالًا أشقياء يترسون المكان ولا يتوقفون عن الركض، فالمصاعد تطلع وتنزل دون توقف، والممرات تعج بطلابٍ وطالبات فرادًا وفي جماعات. بعضهم يتمشى وبعضهم يطلق قدميه للريح كي يلحق بالتحضير اليومي عند القاعة الرئيسية للمعسكر.
أما في يوم الأحد 28 مايو بعد الحفل الختامي، ورغم وقوفي في نفس المكان ورؤيتي نفس الطلاب، شعرت برغبةٍ عارمة بملازمة مكاني وألا أغادرهم حتى أشرف بنفسي على صعودهم لطائراتهم.
المحطة الأولى
يبدأ يوم المعسكر الساعة التاسعة والنصف بمحاضرةٍ عامة من ضيف اليوم يحضرها الطلاب من جميع المسارات، ورغم ثِقل الأسماء وأهميتها إلا أني انشغلت عنها بالتحضير والترتيب للورش والمحاضرات الخاصة بقسمي، قسم القصة القصيرة التابع لمسار الأدب.
ما يلبث طلابي أن يصعدوا متسابقين على الكراسي البيضاء لنبدأ يومنا. ولأن مسار الأدب تكوّن من طلاب في جميع المراحل الدراسية كانت بعض المحاضرات مدمجة وبعضها مفصولة لتسهيل المحتوى على طلاب المرحلة الابتدائية.
فإن كانت محاضراتنا مفصولة نقسّم إلى قسمين ويذهب الصغار رفقة مدربهم إلى ركنٍ خاص بهم في نفس القاعة، وترى التذمر على وجوههم؛ فهم يريدون الجلوس في المكان الرئيسي حسب ظنهم. وإن لم تكن مفصولة جلسنا في مكانٍ واحد لترى التذمر على وجوه الكبار الذين يريدون التركيز دون مقاطعات أطفالٍ يرفعون أيديهم ليجاوبوا قبل معرفة السؤال.
ومرة قرأت تعريفًا عن عنصر من عناصر القصة القصيرة بنبرة مستفهِمة غير مقصودة، فرفع طالب متحمس في رابع ابتدائي يده، فسألته: “ليه رفعت يدك؟” فرد: “بجاوب” فقلت متعجبًا: “تجاوب على أيش؟!” وبقينا أنا وهو نحدق في بعضنا مشدوهين مبتسمين، لا هو يعرف السؤال، ولا أنا أستطيع تجاوز هذا الحماس المُعدي.
وهكذا ينقضي يومنا بين محاضرة (محتوى نظري)، وورشة (محاضرة مليئة بالتدريبات)، وجلسةٍ لتطوير القصص (جلسات كتابة ونقد) حتى قبيل المغرب، إلا في أيام محددة كنا نذهب في رحلاتٍ إلهامية فنعود متأخرين قليلًا.
ورحلاتنا كانت رائعة في مجملها، رغم أن بعضها ظلم الكُتّاب خصوصًا زيارتنا لمتحفين في يومين متتاليين فالكاتب الناشئ مهما كان خياله واسعًا سيضجر من النظر إلى المنحوتات والتحف. بل مرة سألتهم ماذا استلهموا من زيارتنا لأحدى المتاحف وكان لسان حالهم يقول: لا شيء، ونحن جائعون، أين الحافلة نريد الرجوع للفندق؟
المحطة الثانية
أما الرحلة التي لم يرد أحد أن تنتهي كانت رحلة مكتبة الملك فهد العامة.
لم تكن هذه الرحلة ضمن الخطة، إلا أن وقوف الطالبة الصغيرة نور وطلبها بعربيةٍ فصحى خطف قلوب المنظمين. قالت إن حلمها زيارة مكتبةٍ عامة؛ فمدينة حائل التي تسكنها تخلو منها.
وكيف يُرفَض طلب زيارة مكتبة من كاتبةٍ عمرها لا يتجاوز الثانية عشرة وطولها لا يتجاوز ارتفاع الرف الثالث في مكتبة وتتحدث الفصحى، خصوصًا وهي تضحك ببراءة وخجل بعد طلبها وكأنها تعرف أنه محقق؟
وفعلًا ما كان من منظمي المعسكر، بقيادة الأستاذة هناء التي هيمن سحر نور على فؤادها، أن خططوا في وقتٍ مستحيل لرحلةٍ إلى مكتبة الملك فهد، فذهبنا.
ولما دخلناها كانت المفاجأة.
كما قلت، في مسارنا طلاب من جميع المراحل. وكان طلاب المرحلة الابتدائية، بطبيعة عمرهم، حركين ينكش سكونهم سماع أخفض صوت ومرور أبسط خاطر. حتى أن جيراننا طلاب ومدربي المانجا -ومن بعدهم المعسكر كله- أصبحوا يعرفونهم بالاسم من كثرة ترددهم عليهم.
ومكتبة الملك فهد مكانٌ مألوف لمريدي الدراسة أو الكتابة، فتخيلت أطفالًا مزعجين ملولين يحملون رسالة دكتوراة فلان ويركضون بها في الممرات، أو ينتشلون رواية لأجاثا من يد فلان ويدسونها عنه، أو يسقطون الكتب ويزعجون العمّال ومرتادي المكتبة.
لكن كان ظني فيهم ظن سوء، ومنظرهم من أحسن المناظر التي رأيتها (بعد منظر انهماكهم على أجهزتهم وقت الكتابة):
اختار كلٌ منهم زاوية وحمل كتابًا، وانكب عليه كأن روحه انسلت إلى صفحاته ولم يبقَ منه في عالمنا إلا جسده. انغمس الجميع صغارًا قبل الكبار. وبقوا على حالهم حتى جاءت الحافلة لنعود إلى المعسكر.
في ذاك اليوم داخل مكتبة الملك فهد العامة رأيت بأم عيني كُتّابًا يولدون.
المحطة الثالثة
وعلى سيرة الدهشة، تجاوزت مستويات معظمهم توقعاتنا. خصوصًا في الجانب النظري من الكتابة. فتفاجأت بهم يكملون كلامي أكثر من مرة. ولما اسأل سؤالًا لأنشطهم قبل الانتقال إلى الموضوع التالي يجاوبون بمحتوى الشريحة بالحرف، وكأن أحدًا سرّب المحاضرة كما تتسرب أسئلة الامتحانات، بل وكانوا يذكرونني بمحتوى اللقاء الافتراضي الذي قدمته لهم قبل أربعة شهور (قولوا ما شاء الله على عيالي).
وأما بخصوص الجانب العملي، فمرة راقب أحد الطلاب تشققات الأرض في معرض بينالي الفنون الإسلامية ثم نظر إلي متأملًا وقال:
أستاذ، الأرض متشققة رغم أن المعرض ما له مدة فاتح. لكن شكل سبب تشققها هو عدد الأقدام التي داستها، وهذا يذكرني بتجاعيد الوجه اللي ما يشترط تأتي مع تقدم العمر، بل ممكن تأتي مع التجارب.
قال هذا الكلام ومشى عني، ولا كأنه أعطاني تشبيه خارج من رواية كلاسيكية.
المحطة الرابعة
ومع التعرّف عليهم وفهم شخصياتهم أكثر تقترب النهاية للأسف.
ما أزال أتذكر إحساس الغروب المريع -يغمّني الغروب دائمًا- الذي اجتاحني يوم الأربعاء، ومن ثم يوم الخميس الذي أتى محملًا بإحساس اليوم الدراسي المفتوح الممتع والمحزن في نفس الوقت؛ فبقدومه يحل الفراق.
حتى الطلاب وكأنهم أحسوا بالأمر فبات ركضهم أقل، والمصاعد أصبحت شاغرة، والأروقة فارغة. لكن ذرات الحزن لم تملأ الهواء وحدها، فالترقب والتوتر، والاستعداد للحفل، بالإضافة إلى الامتنان والمشاعر الطيبة زاحموا مشاعر الحزن حتى كادوا يقضون عليها.
وبدأ الحفل الختامي.
راقبت طلابي -طلاب مسار الأدب- يفوزون بجدارة، وأنا أصفق بحرارة. بعضهم بكى، وبعضهم تراقص، وبعضهم ضحك غير مصدق. كانت نظرات الفخر حاضرة من الأهالي، وزاحمت نظراتي وأحضاني نظرات وأحضان أهاليهم.
لم أقوَ على الحديث مع أي منهم أكثر من دقائق معدودة قبل أن تترقرق الدموع في عيني ويتهدج صوتي، فأضطر إما للتنقل بينهم تنقلًا سريعًا مضطربًا وقلبي يخفق فرحًا أو لمشاكستهم بطلب نسبةٍ من المكافأة.
المحطة الختامية
وبعد انتهاء الحفل ولما عدنا إلى المعسكر أصبحت أتعرف على بقية المسارات، وأكرر على طلابي الكلام؛ بحثًا عن أي عذرٍ يبقيني ولو لدقائق إضافية في المكان الذي دخلته أول مرةٍ وأنا لا أفكر إلا بشيءٍ واحد:
الله يعين على هؤلاء الأشقياء.
أما الآن، أصبح الأشقياء أخوتي الصغار.
لا أعرف مدة استمرار هذه العاطفة القوية التي تجتاحني، لكني أريد تخليد الشعور، ولو على شكل تدوينةٍ أقرأها وقت تأجج الحنين.
شكرًا لوزارة الثقافة، وشكرًا لوزارة التعليم، وشكرًا لشركة كولاج، وشكرًا لفريق مسار الأدب قسم القصة القصيرة الأسطوري: عمر، وعبير، وجيلان، ومحمد، وأحمد. وشكرًا لطلابي أدباء المستقبل، ولا أصيدكم ما تكملوا كتابة بعد المعسكر.
تعليق واحد