الرجل الفظ
شعرت بالعزلة وكأني وحدي في هذه الدنيا، وكأن لي منطقي الخاص الذي لا يفهمه أحد، وكأن للناس منطقهم الذي لا أفهمه أنا!
هذا ما ينعتوني به.
ولا أتفق مع هذا اللقب ولو أقتصر الأمر على أصدقائي أو أعدائي لمرّت، فلست ممن يطول انشغاله بالناس وغيبتهم ونميمتهم. لكن أن يصل الأمر إلى سوسو؟ أم عيالي؟! هذا ما لا أطيق.
هزأتني أمس وكأني أتيت بموبقة، هزأتني حتى اضطرتني للكتابة، وأنا رجل لا أحب الكتابة ولا اعترف بها، ففيها استغراق في المشاعر ومحاولات مزيفة لكشف عميق الذات، فسامحك الله يا سوسو لقدر ما تضطريني للتضحية باسم حبنا.
دعني أحكيك يا سيدي، هات كباية الشاي وأسمع مني الأربع وعشرين ساعة الغريبة التي مرت بمحسوبك، على فكرة اسمي غسان وأمي كانت تدلعني كنفاني (لا أعرف لماذا، لا أرَ الرابط بين الاسمين غسان وكنفاني!)
عدت من سهرتي اليومية في الاستراحة لأجد سوسو تضع كيسًا منتفخًا وردي اللون أسفل بطنها. لم أفهم سبب بكائها أو وجود هذا المستطيل المطاطي الغريب المملوء بالماء الدافئ. ارتميت على السرير ووكزت جنبها ثم قلت بمرح:
- هذه الموضة الجديدة هاه؟ لقيتيه في التوك توك ولا وين؟
- أيش قصدك؟
أشرت إلى الكيس غريب الشكل بين يديها فصفعتني على قفاي وقالت:
- متخلف! اليوم 27 في الشهر، جاء وقتها.
- والله 27 وقت الادخار والفواتير مو وقت الهبّات!
رفعت نظارتي وخرجت من الواتس آب لأدقق في الكيس وقلت ولا في قلبي غير حنوٍ على مهجة قلبي.
- دائمًا أقول لك لا تضيعين راتبك من أول يوم.
لكنها ردت بصراخ دون أي كلمة.
ثم أقفَلت الضوء وغابت في نومٍ عميق، أو أنا من ذهب في نومٍ عميق، هي كانت تتقلب وتأن طول الليل، حسب كلامها في الصباح، كان مزاجها متعكرًا. وكل ما حاولت إضحاكها لا تضحك، ما هذا المرض الغريب المفاجئ؟
مطيت شفتي للأمام وشبكت ذراعيّ أمام صدري واعترضت:
- طيّب على الأقل وضحي لي!
وضّحت لي:
- جاتني الدورة يا حمار.
لست أعرف شيئًا عن هذا المرض الغريب المتكرر وكلما تشرح لي يصيبني مللٌ حد البكاء. قلصت وجهي وهمست:
- فيا ولا فيكِ.
ضحِكتْ أخيرًا، لكنّي لم أكن أنكت.
ويا سيدي إن كانت هذه بداية الحكاية فهي ليست نهايتها.
بسبب هذا المشهد الغريب مع أم عيالي ذهبت متأخرًا للدوام، لكني لم اتأخر عن الدوام، وحتى أحل هذه المغالطة المنطقية دعني أكشف عن مهنتي، أنا مدرس فيزياء، والمدرسين لا يتأخرون ولا ينصرفون مبكرًا، الطلاب هم من يصلون قبل بدء اليوم الدراسي ويبقون بعد انتهائه. هذا ما قاله لي أبو خالد استاد الرياضيات الذي لم يشهد الطابور الصباحي أو الحصة السابعة يومًا.
في هذه الفقرة اعترف أني أجد صعوبة، فهل أكمل القصة، أم أخبرك عن أبو خالد قليلًا؟
هل ذكري لاستادنا الفاضل اسهاب أم اطناب أم استهلاب؟
وهل تقدمي في القصة دون الحديث عنه سيقلل من ارتباطك به وبي؟
لهذا أحب الفيزياء؛ كل شيء في الفيزياء مباشر، لا تقنيات كتابية غريبة ولا بناء قصة معقّد ولا تشبيهات غير منطقية “وجهك جميل كالقمر” ولا لغة مخادعة كجملة “ما شاء الله باين عليك فاهم” والتي تكتشف (عن طريق زوجتك) بعد الرجوع من جلستك مع أصدقائك أنها تعني أنك لست فاهمًا نهائيًا!
عمومًا، قدمت حصتي بحماس، أركض من الجدار لباب الفصل لأشرح مفهوم السرعة للطلاب، وأزيد سرعتي في عودتي لأوضح التسارع، وأترك جوالي يسقط وشاشته تتهشم ليتعلموا الجاذبية. يضحكون، ويستمتعون، ويفهمون، ثم يتفوقون ويتخرجون وأعيد دروسي على من يعقبهم بلا كللٍ ولا ملل، والحمد لله على تمام نعمته.
أنا أفضل مدرس في مدرستي. ولهذا السبب لا يطيقني بقية المدرسين. وللمدرسين في اجتماعاتهم عادة غريبة، يحبون التشكي. شكّايين بكّايين.
في غرفة المدرسين وقت الفسحة يتحدثون عن الحالة الاقتصادية، ويتشكون من الأسهم والاكتتابات، وأمور اقتصادية حديثهم عنها غلط في غلط. يشكون فاقة لا تلزم من هو في مكانتهم وعنده رواتبهم.
ولما أحاول بذل الخير وأخبر أبو أحمد أن ضريبة الـ 15% ليست سببًا منطقيًا لدينه البالغ ستمئة ألف ريال بل زواج أبنه الذي كلفه نص مليون، خصوصًا جك العود الذي وضعه بجانب المغسلة!
أو أحاول الشرح لأبو سعد أن إيقاف خدماته كان بسبب جيب السوزوكي 2021 فل كامل وليس الأزمة اليهودية-الأفغانية-القطرية-الأفريقية-النباتية.
أو أخفف عن أبو سارة فأخبره أن قطة الفطور الشهرية ليست المشكلة، فهي لا تشكّل 0.005% من راتبه!
أو أعارض إدخال خدمات التقسيط إلى رحلات السفر الترفيهية فهذه بداية كارثة لا تحمد عقباها.
لما أخبرهم بكل هذا، يزعلون! ورغم هذا لا أجد بدًا من الجلوس معهم، فالفنان يحمل رسالة والمعلم أيضًا. ومثلما قال المنفلوطي في موقع موضوع: يجب على الإنسان الصادق الجلوس بجوار الكاذب، إذ هو يقول الحق.
وهذا ليس كل أمري يا سيدي، ولكن أدري أن الرجال المهمين مثلكم ورائهم مهامٌ مهمة، اجتماعات وصفقات وجبالٌ لا يُحركها إلا جهابذة مثلكم، لذلك بقول لك موقف واحد زيادة هو الأغرب، ثم الله ييسر أمرك.
بعد انتهاء اليوم الدراسي، رحت للاستراحة.
كان الديربي على التلفزيون، إذا أنت أهلاوي وسألت أي ديربي مع احترامي لك ارتاح من رحلة يلو ويصير خير، كان ديربي الهلال والنصر.
سألت عن نواف العابد، وأين حمدالله؟ وكم عمر وليد عبد الله ولمَ لم يعتزل للآن؟ وما هذه الحركات التي يفعلها بوجهه؟!
سبب أسئلتي الكثيرة هي توقفي عن متابعة الكورة منذ كوبري الدعيع في نهائي كأس الملك، فأصبحت فقط أطلطل على جدول الترتيب والنهائيات.
عمومًا يا سيدي، أسكتوني وانتهت المباراة على خير. وبعد ساعة طلبنا البيك وشغلنا فيلم الفارس الأسود اللي فيه عمنا الجوكر، فقرّبت صحن المسحب وعلبة الثوم منّي وهتفت بحماسة بينما أمزق بلاستيك الخبز بأسناني:
- يا الله، نهاية هذا الفيلم مقشعرة يا شباب. لما مات أبو وجهين…
النفوس ضيقة يا سيدي وزمن الطيبين السابق لن يعود. يظن الشباب أنّي بهذه الطريقة أدعي معرفة تفوق معرفتهم، وإلا كيف تفسر نهرهم لي واتهامهم بتخريب سهرتهم؟ حاول أحد منهم شرح فكرة غريبة.
- حرقت علينا الفيلم يا أبو سارة. ذحين أيش فايدة المشاهدة وإحنا نعرف أيش بيصير؟
- عادي لو أنا مكانكم بتحمس أعرف كيف يسوونها!
ولمّا رأيت الوجوم في الوجوه قلت.
- يعني بعقلكم بيفوز الشرير؟ حتى الجوكر بينمسك في الأخير تراه تمثيل وقصة!
لم نشاهده الفيلم، بل وطلبوا مني أن “أسري” والتي تعني “أذلف” أو “أغرب عن وجهي” فتأكدت أن الحرق ليس السبب بل ضيق النفوس. وفطنت إلى أن من يغضبه الخيال إلى هذه الدرجة ففي عقله مرض أخاف تسلله إلي.
ورغم ذلك لم أجد من الحزن بدًا، شعرت بالعزلة وكأني وحدي في هذه الدنيا، وكأن لي منطقي الخاص الذي لا يفهمه أحد، وكأن للناس منطقهم الذي لا أفهمه أنا!
انظر لحال الدنيا يا سيدي، صرت أنا شكّاي بكّاي.
المهم، رجعت البيت ووجدت زوجتي ما تزال في غمرة الألم، وبعد عشر دقائق من الشرح، فهمت بالضبط الحالة التي تمر بها، فربت على كتفيها وواسيتها حتى استلقت على كتفي، ثم قلت شيئًا جعلها تطردني من غرفة النوم.
وأنهيت يومي الغريب نائمًا على الكنب مثل الخواجات.
كنا نمشي إلى غرفة النوم وهي متكئة علي. تئن في أذني، وتلعن كونها امرأة بلا توقف، جاءتني لحظة من “الغباء العبقري” كما كانت تقول أمي في صغري. قلت:
- عندي الحل وأنا أبو كنفاني.
ولمّا نطقت حلي، تجمعت الدماء في وجنتيها وصفعتني، وقالت لو أنها تزوجت حمارًا لكان فرق الذكاء بينها وبينه متقاربًا أكثر منّا. وأن علامة الآي كيو الخاصة بي أصغر من مقاس قدمي (مقاسي 39 هل مدحتني أم سبتني؟)
والله يا سيدي عشان أكون صريح معك، حتى الآن ما أعرف سبب غضبها هذا كله.
هل حرّم ربي جل جلاله على الزوج أن يريح زوجته من ألمها؟ كل ما فعلته هو اقتراح حل حتى لا تقاسي هذا الألم المزعج بعد اليوم.
كان اقتراحي ببساطة:
حتى لا يعود لها ألم الدورة، كل سنة تجيب بيبي، فيعمر بيتنا وترتاح.
يخي إنت مبدع والله … منذ زمان بعيد لم أقرأ مثل هذا الأسلوب السلس الرشيق الرقيق، والسرد الجميل. تحديداً منذ فترة ما قبل وسائل التواصل الإجتماعي. فمنذ ذلك الزمن لم يضحكني أو يسعدني أي نص، ولكنك أضحكتني وأسعدتني.