تدوينة

قلَق، وإمكانات، ورفقة

سألت المقاول العجيب عن قصته بعد المحاضرة لأكتشف أنها، وأنه، أعجب بكثير مما ظننت..

 

«أنا فلان، لمّا كان عمري 21 سنة بنيت ثماني عماير وعشرة شقق وما عندي رخصة مقاولات ولا درست هندسة» هذه الجملة الظريفة، والحقيقية، هي أول ذكرى لي عن معسكر «صحافة الحياة العصرية» الذي امتد لأربعة عشرَ يومًا مضت كأنها عشرة سنوات وفي الوقت نفسه كأنها يومين. 

كيف يمضي شيءٌ كأنه عقد من الزمن و48 ساعة في نفس الوقت؟ أظنك ستعرف الجواب في نهاية التدوينة.

 

عودةٌ إلى الفصل 

 

غرفة واسعة مظلمة لا يضيئها سوى البروجكتر. كل الوجوه تستقبل المعلم الأمريكي الذي يشرح لنا أهمية البقاء متأهبين. «على الصحافي أن يكون واسع الحيلة فهو لا يعرف من وماذا سيقابله». يخبرنا عن شخصية تلفزيونية هي مضرب مثلٍ في التصرّف في مختلف المواقف. أتمنى لو عرض لنا مقطع فيديو لترسخ الصورة أكثر. أرى تركيز البقية ويأنبني ضميري. 27 رأس يحدّق بانتباه شديد في إتجاهٍ واحد. انضم إلى الرؤوس. الأعين الصامتة تنبس بأسرارٍ كثيرة. جوٌ من التركيز والقلق المختبئ يشحنا الغرفة.

فوق الطاولات الدائرية البيضاء انتصبت كؤوس عصير البرتقال اللذيذ والرمان الأقل لذة. أكواب قهوة متوزعة بين المتدربين والمدربين والإداريين. صحون معجنات لم تُمس أول الأيام حتى تلاشى الحياء وأصبحت علامةً ثابتةً عند مجموعات المتدربين الـ 6.

وفي المكتب الطولي نهاية الغرفة يجلس خليطٌ من إداريو نيوم وأكاديمية المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام (srmg). بعضهم عرب وآخرون أجانب. أتساءل كيف تبدو المحاضرات العربية من وجهة نظر الإداريين الأجانب؟ لو طلبت منهم تلخيص المحاضرات كيف سيفعلونها؟ أنتبه لأسئلتي الكثيرة وملاحظاتي العديدة. أفكّر بنفسي كآلة تصوير توثّق ما حولها. أرى إحدى المتدربات بتكشيرةٍ بريئة، ارتسم خطان عابسان حول فمها إلى الأسفل، عقد حاجباها وتقلصت عيناها، وكأنها تحاول جاهدةً فهم محتوى المحاضرة. أوه.. المحاضرة. أعيد توجيه رأسي لأقابل المعلّم الذي ما زال يتحدث عن الشخصية واسعة الحيلة.

 

* للمدربين، أعدكم أني كنت مركزًا رغم المذكور في هذه الفقرة.

 

20ات

 

غطت أعمار المتدربين أرض العشرينات؛ آخر عنقودنا في الـ 21. وحكيمتنا في الـ 28. وبصفتي واقفٌ في الـ 25 على خط استواء هذا العقد كانت عيني حساسة للفوارق بين الكبار الناضجين المستعدين للفرصة القادمة، والصغار المتحمسين الراغبين باكتشاف كل شيءٍ. 

في الجزء الحضوري من المعسكر (5 – 16 نوفمبر) طرقنا العديد من أبواب الصحافة العصرية. من الصحافة المعتمدة على الكتابة (مقالات، ومقابلات، ومراجعات ونقد…) إلى صحافة الموبايل (MoJo) المعتمدة على التصوير والمونتاج وانتهاءً بمراجعات المطاعم المعتمدة على حاسة التذوق ودقة الملاحظة. وبطبيعة الحال، بعضنا وجد ضالته في بابٍ محدد من الأبواب. فكاتب هذه السطور مثلًا كان في أوجّ تفاعله عند باب الكتابة لأنه يملك يدًا مرتعشةً وحاسة تذوق طفل في السادسة.

 

الضيق في القلوب

 

تستطيع معرفة مدى انسجام المشاركين في أي دورة من عدد الجالسين وحدهم أوقات الغداء والاستراحات. لذا حينما تجمّع الشباب حول طاولة واحدة في بوفيه فندق VOCO المحتضن للمعسكر عرفت أن نسبة تناغمنا جيدة. خصوصًا عندما آثرت المجموعة التضحية بالمساحة الرحبة على أن يجلس أحدٌ وحده. فصرخ الجميع بصوتٍ واحد وتحركوا بحدة وسرعة ليحسموا أمر انضمام البقية إلى الطاولة التي لم تعتد جلوس كل هذا العدد من الآكلين، ولكنها المودة والصدور الرحبة. هذا غير الضحكات التي ارتفعت وتواترت بسرعة أكبر مع مرور الأيام في أوقات الغداء وبين الاستراحات وأثناء المحاضرات، وكأنك ترى الجليد حرفيًا يذوب بيننا.

 

شخصيات فريدة

 

«وواحدة من الشقق اللي بنيتها طاحت»

بعينين جامدتين وابتسامة خفيفة ارتسمت على شفتين مرتعشتين أسهب صاحب المعلومة التي افتتحت بها التدوينة بعد أسئلة المدرّب الذي دفعه بالقوة لإكمال قصته. لم يكن خجولًا ولكنه كان الوحيد في الغرفة الذي لم يرَ العجب فيما يقول، أو أنه طبّق بعبقرية مفهوم «رواية القصص» التي تعلمناها في دروس المعسكر المختلفة.

سألت المقاول العجيب عن قصته بعد المحاضرة لأكتشف أنها، وأنه، أعجب بكثير مما ظننت؛ فنهاية قصته مع بناء الشقق هي أنه سُرِق ولم يستلم حقه. ثم أخبرني عن مشاريع وتطبيقات جرعته خسارة أموالٍ طائلة، ثم انتقل لتجربته في أكاديمية MBC وانتقاله من كاتب محتوى إلى مساعد في قسم الأزياء. وتخمينك صحيح، قال تلك التفاصيل وكأنها يوميات تحدث لنا جميعًا، بل واستغرب تعجبّي.

وهذه الشخصية برحلتها المثيرة ليست إلا عيّنة. فهناك من «قفّلت صفقة بـ 1.6 مليون قبل ما أجي هنا بيومين» و«فتحتْ شركة تسويق قبل ما أجي هنا بأسبوع» و«أعمل على برنامج خالد الشنيف بعد انتهاء يوم المعسكر» وأمثلة أخرى لشباب سعودي رهيب يجعلني أتخيل مناصبًا مهمة يتقلدونها في المستقبل.

 

رفقة

 

يوم الخميس، بعد انتهاء أيام المعسكر الحضورية، جلست رفقة إحدى الأشخاص من المعسكر في بهو الفندق. كنت مستقبلًا لباب الخروج، فرأيت المتدربين يخرجون واحدًا تلو الآخر.

المعسكر المنتهي بفرصة تدريب لأميز المشاركين في إحدى الشركات التابعة للمجموعة السعودية لم يخلق جدارًا يفصل بيننا. فخصوصًا في اليوم الأخير كان هُناك إحساسٌ مرح مشوّب برائحة حزنٍ خفيفة، إحساس اليوم المفتوح في نهاية السنة الدراسية.

كنا أصدقاء اجتمعوا في مكانٍ ما ليضحكوا، ويأكلوا، ويكونوا صداقاتً بينما يتعلمون من تجربةٍ غنية مكثفة ويتطلعون لفرصةٍ تبني بقية حياتهم المهنية.

ما علينا.. عودةً إلى البهو والرفقة.

عدّت ساعة، واثنتين، وثلاثة، وأربعة من الثرثرة، والنكت، والفلسفة، والاستغراق في ذكريات الأسبوعين الماضية. بعد تأمل تلك الجلسة أظنني أعرف لمَ شعر أغلبنا بأن فترة المعسكر شديدة الطول وخاطفةً في الوقت ذاته: يؤثر علينا الوقت بهذه الطريقة الغريبة عندما تخفف الضحكات، والأحاديث الجانبية، والأسئلة الفضولية وطء الدروس المكثفة الطويلة. دون أن أنسى الرفقة، أهم عامل من تلك العوامل، فهي ما يجعل دورةً مكثفة تمر وكأنها رحلة ترفيهية لا تُنسى تتخللها بعض الدروس الإثرائية.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى