دراسة في اللون الرمادي

(1)
اعتراف
أشعر بالملل، الأيام رتيبة، أهدافي صارت غامضة وفي أكثر أيامي لا أستطيع ذكر دافعٍ واحد لمغادرة فراشي وبدء يومي.
أصبحت لا أفارق فراشي قبل غفوات سريعة أتسلى فيها عن الخواء القاتل الذي صارته حياتي فأمضي بعض وقتي بين وعيي ودونه حتى أشفق على نفسي من هذا الضعف فأقوم على مضض.
الأحد هو الأحد، والإثنين هو الإثنين، وبقية أيام الأسبوع هي بقية أيام الأسبوع، والإجازة ما عادت تعرف ماذا تصلح، أو كيف تصلحه.
أداوم أيام الأسبوع بابتسامة مشرقة، كموظف الشهر، ثم أرتاح أيام الإجازة بالتحديق في السقف بينما أتخذ قراري: سأستقيل.
نعم، سأعمل على مشروعي الخاص وسأملك 100% من جهدي وعوائده، هذا قراري النهائي يوم الخميس قبل النوم.
ثم يوم الأحد الساعة الثامنة صباحًا أكون أول المُبصمّين، وهذا مصدر فخرٍ بصراحة لأني أكره التأخر على المواعيد.
هذه حياتي كموظف في العاصمة، ثمانية أسابيع من الصمود يليها أسبوع أعود فيه لأهلي، لا يقل عبثية إلا أني أنشغل عن أفكاري بطلباتهم وتذمرهم، يسألوني عن إمكانية نقلي أو بحثي عن وظيفة جديدة في نفس المدينة فالشوق فاضح وأيضًا متطلب، وأرد: لا أدري، الأمر ليس بيدي، المستقبل في الرياض، لقمة العيش صعبة.
أظن أن أكثر ما أريده هو شيءٌ غير اعتيادي، مغامرةٌ من نوعٍ ما، يُفضّل مغامرة خطرة دون وصولها لمرحلة الموت، أريد أن أنتشي دون مُخدِّر. أفتقد ما يشعرني بالحياة، حتى الروتين الذي أحب تحول لتشوهٍ غريب من الأنشطة المتكررة التي كانت تعني شيئًا في زمنٍ تحول لذكرىً بعيدة لدرجة التشكيك بحدوثها.
ليتني بطلٌ في قصة أحدهم، فحتى في قصتي لا أظنني شيئًا غير عابرٍ مسالم يجزي الوقت في النطاق الآمن من الحياة، موظفٌ بوظيفةٍ تكفي لحياةٍ كريمة لمدة شهر حتى يأتي الراتب، يعرج داخلًا ثلاثيناته ليخرج منها كما دخلها.
أستطيع أخذ قهوة مختصة أكثر أيام الأسبوع، ولا أشيل هم البنزين، وإن اشتهيت مطعم معيّن أستطيع الذهاب إليه، ولا أُحرَم من الاجتماعات الأسبوعية لصديقٍ هنا أو زميلٍ هُناك فالـ”نيتوركنق” أهم من الخبرات والمهارات، حسب نصيحة كل شخصٍ أقابله، حرفيًا.
أستطيع رفع الشاشة لفوق لأشتري آخر سروال نصح به ******* أو شواحن نصحت بها *** ********. لا أملك ما يكفي لأبدأ “بزنس” ولكنّي أملك فائضًا كافٍ لأشتري من أي “بزنس”.
لكنّي رغم هذا عندما أستيقظ الصباح، لا أعرف سببًا لاستيقاظي، فكما يتلاشى السحر من علاقات الأزواج أظنني والحياة فقدنا سحرنا.
واحتال كل شيء إلى الرمادي.
أين أبو أرجل حمار من طاش ما طاش؟ أو الرمزيات الأسطورية في القصص القديمة؟ أو حتى الأصدقاء أصحاب السفريات المجنونة، والزوجة صاحبة المتطلبات التي تسد من هذا الفراغ شيء؟ أحتاج أي أحد.. أحتاج إثارة! أحتاج شيء أكبر من الحياة!
أحيانًا أقول: يا رب أُطرَد من وظيفتي.
أحيانًا أترك قدمي على دواسة البنزين أكثر من اللازم.
أحيانًا أتأخر عن دوس الفرامل.
لكن لا شيء يحصل، في أفضل الحالات يصيدني ساهر أو أطلع رصيف أو يرفض مديري النص الغريب الذي كتبته، لا قفزة من فوق تل، ولا صدمةً تدخلني في غيبوبة، ولا أي شيءٍ يجعل ضغط دمي يرتفع ولو قليلًا.
الحياة بلا هدف كفيلم أكشن بلا قصة.. ما يهم حجم الانفجارات وعدد الطلقات التي ينجو منها ذا روك، أو السرعة التي أصل لها بسيارتي، فسرعان ما تفتر الإثارة وتطل الرتابة برأسها العملاق.
(2)
العجلة المعطوبة
عادي
“كيف عادي؟! الخط ثماني ساعات! لا سمح الله صار لك شيء؟”
منذ كنت صغيرًا وأنا أخاف أبي، لا أستحي من قول ذلك، فحتى جدتي تخاف من أبنها، لكن مؤخرًا تحوّل خوفي لنوعٍ غريب من عدم الاهتمام، تعليقاته العصبية، نظراته المليئة بالشزر، وذراعيه الملوحتين بغضب، لم تعد تحدث فيني أي نوعٍ من الذعر أو التوتر بل أشعر بنوعٍ غريب من الرغبة بالانتقام.
ما أزال أحبه، بل وأستشيره بل وأبره، ربما كل ما اختلف هو أني لم أعد أخاف منه، وأني أبحث عن تعويضٍ لأيام الخوف، فهو ليس الرجل البدين فارع الطول الذي كان وأنا طفلٌ في السابعة، أنهكته خمسيناته وأكمل السكر الناقص، لعل خوفي الغريزي منه لم يعد يرى مبررًا لوجوده وطبيعتي المادية ما عادت تجد فيه دليلًا يجعلني أكبره.
هذه ثالث مرة أسافر، والكفر ما فيه إلا العافية
“أنت بنفسك تقول إن الضغط نزل لـ 12!”
معي المنفاخ ومعي كفر احتياط
“تمشي وتنفخ؟!”
لا أدري لماذا أصر على رأيي فأنا أعرف أنه على حق، والكفر لا يصلح للتنقل داخل المدينة فكيف بالسفر؟ إلا أن شيئًا ما داخلي يرفض الخيار الآمن وشيئًا آخر سعيد بقدرتي على قول لا.
ما عندي فلوس أغير الكفر
ضربة تحت الحزام، أعرف حساسية أبي تجاه المال وأعرف أن في يوم 25 من الشهر لا يملك مبلغ تغيير كفر إلا حرامي أو رجل منظم، وعائلتنا متوسطة الحال تشكو من غياب كلاهما.
“ويعني؟ الفلوس ولا حياة البني آدم؟! يا سبحان الله!”
تركني وعصف إلى غرفة المعيشة، ثم ما غابت الشمس حتى جاء ليقرّعني بنصائح شديدة اللهجة عن حاجتي لأن أقود بأمان وانتباه في الغد والتزم المسار الأوسط أو الأيمن -لمدة 800 كيلو! – وأتوقف في كل محطة لأنفخ العجلات، وحط من قدر أهمية السفر بأربع كفراتٍ سليمة إن اتبعت نصائحه، وسرد علي نصائح أخرى حملت نفس المعنى: لا أملك مالًا لتشتري كفر.
رديت:
أبشر.
نمت متوهمًا انتصارًا ومستعدًا لرحلةٍ تحمل رائحة مغامرة، لأول مرةٍ جافاني النوم مما لقي في قلبي من حماسة.
(3)
رائحة مغامرة
الساعة: 7:00ص
ضغط الهواء: 34
كل أغراضي في سيارتي، الجو عليل، فالشمس لا تهاجم في هذا الوقت من الصباح أيام الخريف، ولكنها تعطينا مهلةً أو لمحةً عن كيف ستصبح الأيام وقت الشتاء، أتمدد وأموء كقطة ونسيم الصبح يداعب شعري الأسود الناعم.
أدير المحرك، مستعدٌ للعودة إلى العمل. كذبت، ولكن ما الفرق؟ فلا يؤخر عدم استعداد المرء أمرًا كما لا يسرّع استعداده آخر، ودعت أهلي للمرة الرابعة عشر بعد المئة، وبكوا كأنها المرة الأولى، فذرفت دمعةً عندما جلست وحدي في سيارتي اخفف بها ثقل قلبي.
بدأت رحلة الثماني ساعات، حمّلت عشرات المقاطع لترافقني في سفري وبالي لا يرافقه غير الكفر المعطوب، أراقبه عن كثب متمنيًا أن أصل بسلام لكن ليس بلا حربٍ باردة تسرع ضربات قلبي، أتصبب عرقًا كلما نقص ضغط الهواء في العداد الإلكتروني، وأتنفس الصعداء كلما مرت عشرة دقائق دون نزوله.
أشعر بالحياة.
الساعة: 8:00ص
ضغط الهواء: 30
لم أتوقع نزولًا بهذه الحدة!
على هذا المنوال سأضطر للتوقف قبيل الساعة القادمة، فسرعة مئة وأربعين كيلو متر في الساعة وضغط أقل من خمسة وعشرين خلطة تنبئ بكارثة.
محطة على بعد 5 كيلو
سأتوقف عندها وأغير الكفر، نهاية مغامرة مخيبة للآمال، نهاية تناسبني: الموظف الرتيب الجالس في الوظيفة ذاتها لمدة خمس سنوات رغم ما يدور في خلده من رغبةٍ بالاستقالة كل نهاية أسبوع، إن كانت هذه شخصيتي، فلما يا ترى اعتقدت أني سأحصل على مغامرةٍ عظيمة اكتسب فيها شجاعة عنترة فجأة؟
اعدت الاستماع لمقطعٍ بعنوان: Joe rants about happiness
مقطعٌ لمحاور مشهور يشدد فيه على أهمية عيش حياة مرضية، مليئة بالبهجة، والمغامرة، وقتل الرتابة بفعل ما نحب ولا نخضع للسهل الذي يذبح حياتنا ذبحًا، تحدث في المقطع بحرقة وحدة وصوته يرتعش ارتعاش البكاء والانفعال بينما يوجه حديثه للشباب والشابات كيلا يقعوا في نفس أخطاءه.
ليست ظروفه ظروفي، ولا أهله أهلي، ولسنا في نفس المكان أو الزمان حتى.. إلا أن شيئًا في الحرقة في صوته، والنبرة الغاضبة، والأسلوب العفوي المختلط بعتابٍ أبوي، شيئًا في هذه النصائح التي تربط كل إنسانٍ بأخيه الإنسان.. جعلت دموعي تنهمر بصمت.
ها هي المحطة عن يميني، وها هو مدخل المحطة يفوتني، قررت استكمال المغامرة لآخرها.
الساعة: 9:00ص
ضغط الهواء: 29
ويا له من اختيار، ضغط الهواء بقي تقريبًا كما هو، آخر مرةٍ شعرت بمثل هذا التيقظ كان قبل ما يزيد عن السنتين، ابتسمت وأنا أبدّل عيناي بين الساعة ومقياس ضغط الهواء، أخيرًا.. تحدٍ حقيقي لا علاقة له بتقارير الأداء والـ OKRS وكل السرطانات المنتشرة في عقلي وجسدي!
تعرقت وضجت نبضات قلبي: لا محطة لمدة ساعةٍ كاملة.
ضربت على المقود ضربة وضربة وضربة وصرخت بأعلى صوتي ثم ضحكت كرجلٍ تلقى أسعد خبرٍ في حياته والدموع تملأ عيني حتى بات خط السفر ضبابيًا لا أرى فيه إلا سرابًا كالماء، ولمّا انتهيت انتبهت لعائلة من سبعة أفراد في سيارة لاند كروزر تحدجني بنظراتٍ متعجبة، فرفعت يدي لأسلم عليهم ودست البنزين لابتعد بأسرع وقت.
الساعة: 10:00ص
ضغط الهواء: 26
استمعت لموسيقى روك صاخبة ورفعت الصوت إلى آخره كمن يريد إبعاد شبهة الخوف عنه، ولم أكن خائفًا لكنّي شعرت بالخطر يقترب، وعودتي أصبحت مستحيلةٌ الآن فأنا في منتصف الطريق.
محطة على بعد 10 كيلو
كنت أفكّر بأخي الصغير، وزملائي، وأصدقائي الموظفين، وأبي الذي تفصله شعرةٌ عن التقاعد، أفكّر بطبيعة الوظيفة، وحاجتنا لها.
الإنسان يحتاج لما يفعله، وبعضنا لا يملك شيئًا يشغف به ويريد تحقيقه، وهويته هي عمله.. لذلك ليس العمل شرًا، لكن ماذا عن الروتين، والرتابة، والمهام التافهة الطويلة التي يستطيع حذائي التكفل بها؟
أخي متحمس فجامعته أعدته “لسوق العمل” ولا أريد أن أكون ذاك الشخص، لذا لن أقول غير سنرى يا أحمد.
ماذا عن أبي؟
أبي يكره وظيفته ولا يتوقف عن ذمها منذ أن كنت طفلًا، أي قبل خمسة وعشرين سنة، ولكنّي أظنه ارتبط بها، فهو يتحدث عنها كما يتحدث أزواجًا أتموا الأربعين سنة سويًا، يذمها دومًا ولكن الشغف في صوته يجعلك تجزم أنه يحبها حبًا لا يدركه حتى يفقدها.
ومن أنا لأحل كل هذا؟ وكيف أحل كل هذا؟
وكما تقول أمي:
كل ما فكرت تكدرت.
ثم تذكرت جو بذكرىً مخالفة لتذكري له في الساعة المنقضية، فلعنته؛ فالتنظير عن الشغف والمغامرة سهل من تلك البقعة المريحة من الأرض، أما هُنا، فإما الوظيفة أو الموت.
قررت إجهاض المغامرة.
وصل بي الكدر لمحاولة قتل نفسي بهذه الرحلة الخطيرة، لكن هذه المرة الأولى التي أفعل فيها شيئًا غير مدون في قائمة المهام الوظيفية أو الشخصية، أول مرةٍ أقرر فعل شيء غير منطقي ولا يخدم هدفًا ما، ولا يبني “المستقبل”، بل فعلته فقط من أجل نزوة.
وأما الآن فها هي محطة ساسكو، نهاية المغامرة.
(4)
ليس بعد
الساعة: 11:00
ضغط الهواء: 23
أح. أح. أح. أح. أح. المحطة مقفلة. المحطة مقفلة!
أشعر بشيءٍ ملح يضغط علي لأفعل كل شيء، ويعيقني عن فعل أي شيء، وأن النهاية اقتربت، تصاعدت وتيرة نفاد الهواء فجأة واشتعلت المركبة بأضواء وضجت بأصوات، ألا تعرف السيارة الحمقاء أني في منتصف الصحراء؟!
حجرٌ ضخم يسد مجرى البلع، وعرقٌ كثيف يبلل ظهري، ورعشة تجري في جسدي، أعرف هذه الوصلة من الطريق، لا شيء فيها إلا الجبال الممتدة وحتى جانب الطريق ضيقٌ وخطير، وارتفعت الشمس وبدأ السلخ، يبدو أن الموت اقترب، يبدو أن الموت اقترب!
ليتني لم أترك المنفاخ في البيت.
أنا متيقظ، ومذعور، أراقب كل من يمر، ألف عملية تدور في رأسي في نفس اللحظة، وتركيزي وصل إلى مراحل لم أشهدها قبلًا، أفكر بكل الاحتمالات كذاك الساحر الشهير في الأفلام، يا الله.
الساعة: 12:00
ضغط الهواء: 19
هذه المركبة الملعونة، وكأنها تحفل بفقدها للهواء. شفتي بيضاء كالقمر، وقلبي يدق كأني ابتلعت عشر علب رد بول، ووجهي يحترق لا أعرف هل الجاني الشمس التي تتوسط السماء أم هذا الموقف العجيب؟
مستعد لبيع عمري من أجل محل كفرات ينقذني من هذه الورطة، والتوبيخ القادم من أبي، ومن الوقوف في جانب الطريق حتى يأتي فاعل خير يتصدق علي ويحرجني، ومن غياب الغد فرصيدي لم يعد يكفي.
احتد تفكيري حتى ظننت بنفسي الجنون، فتداخل بنظري لونٌ فيه صفار وبياض، ورأيت كل شيء بطيءٍ غامض، وشعرت بنفسي كمن دخل لحلمٍ وهو مستيقظ.
مستعدٌ لبيع روحي من أجل محل كفرات!
الساعة: 12:30
ضغط الهواء: 14
رأيت محلًا صغيرًا على جانب الطريق!
ظهر فجأةً دون لوحاتٍ استباقية أو دون أن يكون جزءًا من محطة بنزين كعادة المحلات في طرق السفر، حوله عددٌ لا ينتهي من العجلات، عمتني الشمس عن لوحته. بدا مكانه غريبًا إذ توسط الأرض المنبسطة بين جبلين.
يكاد الجانب اليسار من مركبتي يخرج عن الأرض الترابية المنبسطة حتى الجبال، فليس بين المحل الصغير والخط الأصفر في حافة الزفت إلا متر أو أقل من المتر، توقفت بجانب الباب وخرجت من سيارتي، رأيت اللوحة أخيرًا بعدما رفعت يدي لتحجب الشمس:
محل عامر
سلّمت ودخلت إلى المحل، رغم الشمس الحارقة في الخارج إلا أن المكان كان قطعة من الليل، دخلت بضع خيوط من الشمس لتريني طريق خطواتي، أما غير ذلك لم أرَ شيئًا.
للمكان رائحة نتنة مكتومة، كرائحة إبط، أو فرشةٍ مبلولة، أو رائحة شيءٍ ميت ومتحلل، لا أمانع أيًا من هذا طالما عندهم كفرات.
أمامي طاولة محاسب، تمتد منها أرففٌ دائرية تحيط بالمكان كاملًا، في الرف اليمين لا أرى إلا علب زيت فارغة، وصناديق سوداء صغيرة وكبيرة كلها مدفونة بالغبار، وعن يساري قطعٍ من جلد مقطوع من كفرٍ ما، وبجانبها رأس دبٍ قطني وردي اللون، ونسخةٌ من كتاب عنوانه: كتاب المقدسين.
ناديت، فلم يرد أحد، تمشيت في المكان منتظرًا أداعب رأس الدب فرأيت خلف طاولة المحاسب بابًا صغيرًا محجوبًا بقماش مهترئ لا يشكو من خرمٍ واحد.
بينما توجهت إلى الباب سمعت صوت أنفاسٍ مكتوم، وشعرت بالمكان يزداد عتمة، وإذ بظلٍ طويل يحيط بي ويحجب شعاع الشمس القادم من مدخل المحل، التفت لأرى رجلًا في ثوبٍ أبيض، متلثمًا بشماغٍ قاني اللون كدم الغزال، عيناه غائرتين، وبشرته شاحبة ككفن ميت، ويده لم يبقَ منها إلا العظام والجلد.
(5)
الرجل الشاحب
السلام عليكم، الحمد لله، لو سمحت كفري.
تلعثمت، ظهوره وظهور محله كانا مفاجئين وكأني بطل قصة كاتبها كسول، عندما رأيته ينظر إلي بعينين غائرتين ضحكت وصفعت يدي بيدي ثم عدلت كلامي.
الكفر معدوم!
نسيت كيف تُركّب الجمل، كان يبدو كشخصية خيالية، كتلك الشخصيات التي تراها في صحراءٍ بعيدة، وتموت قبل أن تميز حقيقتها من هلوستك، رغم نحفه الشديد غطّى الباب كاملًا وحجب الشمس عنّي.
آسف دخلت هنا، لكن ما صدقت أحد يساعدني.
ما زال ينظر، صامتًا، ولكنه هذه المرة أشار لي بعينيه لأرافقه ثم بخطواتٍ متراجعة بطيئة وثابتة خرج من محله فتبعته.
كان كفري موضوعًا بجانب السيارة، لم أرَ أثرًا لأي أداة، لا رافعة ولا مفك، هل رفع المركبة بيديه وأخرج الكفر؟!
وين أدواتك؟!
في اللحظة التي فتحت فمي فيها أدركت الوقاحة فيما قلت، فصححت لنفسي مسرعًا:
الله يعطيك العافية، أنقذتني والله.
هل الرجل أصم؟ أردت سؤاله بلغة الإشارة ولكنّي لا أعرفها، فأشرت إلى أذنيه لكني لم أجد أحدًا يرى إشارتي فالرجل حمل الكفر بيده ودخل إلى المحل.
وقفت على الرمل في ذهول ولهيب الشمس يلفح وجهي، أراقب الجبلين الشاسعين يطوقاننا ثم أحول عيني للطريق شبه المهجور وأقف في هذا المكان الذي استوعبت أنه لا يطل على الشارع، بل نبعد عنه ما يبدو ككيلو. هل شققت كل هذه المسافة بين الجبلين؟ إن فعلت فأنا لا أتذكر.
في اللحظة التي تنبهت فيها إلى خلو الطريق مرت سيارة واحدة وكأنها تستجيب لشكواي، كانت سيارة العائلة ذات السبع أفراد نفسها، وكانوا ينظرون إلي كنظرتهم الأولى، هي لحظةٌ تلاقت فيها أعيننا، ثم بسرعة مئة وأربعين كيلو ابتعدوا عن مجال رؤيتي.
سمعت صوت دحرجة انتهت بارتطامٍ مكتوم، يبدو أن كفري أصبح بلا فائدة، ثم كدت ألحق صاحبنا الأصم إذ خرج صوتٌ حاد أدمى أذناي، صوت احتكاك الفولاذ بالفولاذ، وفي خضم كل هذا سمعت صرخةً واحدة.
صرخةٌ غير بشرية، غريبة وبشعة، أشبه بصرخة مفترسٍ يحارب الموت، تكررت الصرخة، أهو صاحبي الأصم؟ أعرف أن الصم لا يحسنوا الكلام لذا أظنه هو، أيناديني؟ أطلقت أذني، إن سمعت صرخته مجددًا سأذهب.
ها هي ذي!
دخلت إلى المحل، لم أجد غير رفوفٍ مليئة بكفرات مدفونة في قبرٍ من الغبار، وكرسيٍ هزاز بلا مقعد لا أذكر وجوده، ولأول مرةٍ لاحظت السقف، فما كان شيئًا غير قماشٍ مهترئ مليءٍ بحفرٍ صغيرة لا تسمح لخيوط الشمس الدخول إلا لمامًا.
لو سمحت!
ناديت دون مُلبي، اهتزت قدمي، وقف شعر يدي، وسمعت دقات قلبي تعترض، مشيت ببطءٍ إلى الخارج، أتلمس طريقي فأعيني كأن غشاوةً أصابتها. لا أعرف ماذا حدث هُنا ولكن قلبي يخبرني أن علي انتظاره في الخارج.
ولمّا خرجت وجدت كلبًا بحجم ناقة، يمشي حول سيارتي ويتشممها دون أن يلاحظ وجودي، وحينها سمعت تلك الصرخة المدوية مجددًا فحوّل الكلب نظره إلي، بل حوّل عينيه فلا أدري أفيهما ضوء؛ لأن عينيه بيضاء بلا بؤبؤيين.
هرعت إلى داخل المحل مجددًا، لم أكن مستعدًا لمعرفة هل الكلب الناقة أعمى أم بصير.
وحينها رأيت الرجل الشاحب يخرج رأسه من الباب القماشي، ويشير برأسه إلى الداخل، فبين كلبٍ بحجم ناقة ورجلٍ كعود أسنان، لم يكن اختياري صعبًا.
أبعدت القماش بيدي ودخلت الباب، رأيت منحدرًا جبليًا تملأ الإطارات قاعه، وبين الإطارات رأيت جراء، وقطط، وناقة، وكلاب، ورؤوس بشر، وحينها التفت لأرى الرجل الشاحب يلوح بقضيبٍ حديدي في اتجاهي.
(6)
المواجهة
رأسي يطحنني طحنًا، لا أعرف الساعة ولا أعرف الأرض ولكنّي مستلقٍ على أشياء ذات روائح نفاذة والشمس تصلني حمراء اللون لا تضيء إلا أماكن محددة، هممت بالوقوف فشعرت بقدمي غائرة في مادةٍ لزجة، أهي دماء الموتى وأجسادهم المتحللة أم وحلٌ حقيقي؟
وضعت يدي على إحدى الكفرات، فانزلقت لتغور داخل جمجمة ناقةً نُقّعِت حتى لانت، وخرج من عينيها دود أبيض لزج. كتمت صرختي، وقررت إغماض عيني والتقدم حتى أصل إلى حافة بحر الموتى هذا، فسبحت باكيًا، ينفرج الطريق مرةً فاقترب مسرعًا، وينسد أخرى فأرتطم بقطٍ أو شيءٍ قاسٍ لا أميزه ولا أريد تمييزه، ويحدث هذا كله وأنا شبيه السابح في الفضاء لا الزاحف في الأرض.
رأيت قطًا التحم جسده بعجلةٍ معدنية ضخمة، ورأيت طيرًا بحجم كلب يُحدّق فيي قبل أن يسقط رأسه عن جسده فيستقر في حضني، فابتعدت كيفما اتفق ظهور الميتة القادمة.
وصلت إلى الحافة بعد زحفٍ مضنٍ ووضعت قدمي على شيءٍ لزج كان العتبة التي احتجت لأقف، وفي اللحظة التي وضعت قدمي فيها على الحجر تمزقت المادة اللزجة تحت قدمي. سلكت أول خطوة في طريق الصعود الذي كان مائلًا كمنحدر.
بعد خطواتٍ قليلة إلى الأعلى استوى المنحدر قليلًا فأصبحت أمشي صاعدًا كمن يتريض في جبل. وفي تلك اللحظة رأيت مخلوقًا صغيرًا كان مزيجًا من طفل وقرد. طفلٌ مُشعِر. همس:
“قلت له إنك ما بتموت، باقي قدامنا لعب وفلّه!”
واختفى.
كانت رائحة الموت نفاذة مني، وجسدي مضرج بالدماء كطلاء الحرب، لم أفكّر إلا بشيئين:
الهرب والقيء، شرعت في الأول لما انتهيت من الثاني.
سد المحل الطريق، فإما تسلق الجبل وإما المرور من الباب الصغير الذي خرجت منه، سمعت صوت موسيقى ملحمية في رأسي، يدي ترتعش وقلبي يعترض، ولكنّي رأيت شيئًا يلمع في الأرض أعطاني الشجاعة اللازمة: حديدةً مصمتة غريبة الشكل.
دخلت من الباب الصغير وبيدي حديدتي الجديدة، لم أجد أحدًا، فتشت في كل زاوية خوفًا من هجومٍ مفاجئ. وكأن كل شيءٍ ما كان إلا خيال رجل ظمآن في منتصف الصحراء الحارقة.
خرجت لأجد الدنيا أظلمت. ظلامٌ دامس، لا نجوم!
وما أشد استغرابي حينما وجدت سيارتي مزودة بعجلاتها الأربع لا ينقصها إلا دخولي والهرب، حتى الكلب الناقة اختفى، هرعت إليها وبحثت عن مفتاحي. أح. لا بد أنه سقط مني في حفرة الموت.
حينها سمعت نفسًا ثقيلًا يخرج من الفم لا الأنف، فالتفت لأرى الرجل الشاحب وبيده زرادية حديدية، لوح مرةً أخرى، فاندفعت نحوه لنسقط أنا وهو، أرتطم رأسه بحجرٍ في الأرض فتوقف عن الحركة.
دام موته لثلاث ثواني، قبل أن يفتح عينه مباشرة دون أن يهاجم، إلا أن خدرًا عظيمًا تفشى في ذراعي، لا أعرف متى نجح بغرز الإبرة، لكن غشاءً عظيمًا بدأ يحول بين عيناي والعالم حتى تحول لعتمةٍ كاملة. سقطت وأنا أتمتم:
عندي دوام بكرة.
ثم وجدت نفسي على حافة الحفرة مجددًا.
تقطّعت ثيابي من أثر سحبي، هذا أول ما لاحظته، فجلدي المحمر ينبض ألمًا وزجاجٌ مكسور انغرس تحت رقبتي، رفعت رأسي لأرى يدًا كيد طفل في حجمها تحزم قبضتها على كعبي، ما أُزال أُسحَب؟!
ذلك “الشيء” سحبني وكأن وزني وزن الريشة، بينما أرى الطفل القرد يلعب بكرةٍ هي جلدٌ لا هواء فيه قبل أن يختفي كالمرة الأولى، ادعيت الاغماء حتى اقتربنا من الحفرة، فنزعت قدمي اليمنى من يديه وركلته بالأخرى، ولمّا وقفت لأهرب أحاطت بكعبي قبضةٌ كالأصفاد الحديدية.
انقلبت على ظهري واقتلعني من الأرض ثم أخذني من تلابيبي وأحاط بعنقي بقبضتيه، فعلت ما أراه في الأفلام: انقضيت على وجهه بتاج رأسي فشعرت بقشرتي الحادة ترتطم بشيءٍ رخوٍ هلامي لا أحسبه تضرر من ضربتي.
اشتدت قبضته وخرج الهواء من رئتي. رأيت الدنيا تظلم للمرة الثالثة، وسحبني إذ اقتربنا من حفرة الموتى العملاقة حتى وقفنا على الحافة، فاحتضنت جسده بكلتا يدي، وألقيت بنا إلى حفرة الموت.
استلقيت على ظهري الدامي وصرخت صراخً متصلًا في ذعر، ثم خفت صوتي ووجمت وقد أثقلت هذه المغامرة قلبي، ثم بخفوتٍ أول الأمر هززت رأسي، وأرتفع صوتي وأرتفع حتى كركرت ضاحكًا وعيناي مفتوحتان على آخرهما. لا أعرف لماذا. شعرت كالخمسة عشر رجلًا الذين ماتوا من أجل صندوق.
ثم فقدت وعيي.
عندما وصلت دورية أمن الطرق وجدوني مستلقيًا على الأرض في وسط صحراء تبعد ثلاثة كيلو عن الطريق الرئيسي لمحافظة ظلم، لم يجدوا أي أثرٍ للرجل، أو الكلب الناقة، أو حفرة الموت، أو “محل عامر”.
وجدوني مغمىً علي بجانب سيارتي ولا شيء حولنا مما ذكرت. ما حيّرهم كان الإطار الأيمن المفقود، ما وجدوا أي أثرٍ لآلاتٍ رفعت بها المركبة أو أي أثرٍ للإطار نفسه.
مُلحق:
ولكنه موجود حولنا، وأكبر دليل أن سيدةً ذكرت للشرطة الأسبوع الماضي أن سبب اختفاء أهلها هو رجلٌ شبحي البشرة، نحيلٌ كعود الأسنان ومتعافٍ كجذع الشجرة، يلبس ثوبًا أبيض اللون ويتلثم بشماغٍ قرمزي اللون لا يتحدث ولا يرد الحديث ظهر لهم عندما توقفوا في الخط بسبب ارتفاع درجة حرارة المركبة.
سُجنت المرأة بعقوبة قتل أهلها، ولكن القاتل الحقيقي حرٌ طليق.
كتبت هذه القصة حتى اتأكد من أن الجميع يعرف السبب حينما اختفي “فجأة” يومًا. إن جاء على ظهر كلبه الناقة لينهي ما بدأ -وهو قادم- فيجب أن تعرفوا سبب اختفائي.
وبسبب هذه القصة، استقلت من عملي أخيرًا، لن تكون هذه القصة هي الأخيرة، فأنا كاتبٌ الآن، ودراسات أخرى في ألوانٍ أخرى قادمة.
أما الآن والساعة تجاوزت الرابعة فجرًا، أكاد أموت من الإنهاك، وسأتوجه للنوم بعد التأكد من إغلاقي للأبواب، فلم أعد أصدّق حدسي بعد تلك الحادثة. في كل لحظةٍ أغمض عيني فيها أراه، وفي كل لحظةٍ يسود فيها الصمت أسمع تنفسه الخارج من فمه، أظنني أسمعه الآن بعدما أوقفت الموسيقى.
عجبتك القصة؟
اشترك في المدونة حتى لا تفوتك قصصٌ مثلها
رائعههه، الكتابه والاسلوب كل شي بيرفكتتت 😔✋💞
نعمة أن محمد يكتب…جميلة جدا