قصة

الزبّال

هربٌ من الذبول البطيء إلى الانهيار المفاجئ المليء بالحياة.

الفصل الأول:

شاحنة الكيماوي

مرتين كل أسبوع، تصطف نساء القرية خلف نوافذهن لمراقبة «شاحنة الكيماوي» تلم النفايات. يشيع الشاحنة الأطفال الفرحين بينما تشق طريقها إلى ساحة القمامة في منتصف القرية، الساحة التي تُرمى فيها الفضلات والحيوانات النافقة والأشياء أخرى…

رغم ندرة منظر الشاحنة البخارية العملاقة في هذا العالم المدمّر، إلا أنها ليست السبب الوحيد وراء تجمّع نساء وأطفال القرية.

يقود الشاحنة «العود» وهو شيخٌ لا يعرف عنه سوى اسمه وصوته؛ جسده مغطى بقصديرٍ نحاسي يحميه من الانبعاثات الكيماوية الصادرة من الشاحنة، وصوته مبحوح كأنه يلتهم السجائر، رغم أن رفيقه المتعلق في مؤخرة الشاحنة هو من لا تفارق  السجائر يده.

عكس العود اكتفى «الزبّال» بسروالٍ طويل وحذاء جلدي تاركًا جذعه مكشوفًا للانبعاثات. تحبه النساء لجسده المرسوم وشعره الأسود الطويل ورجولته المتمثلة في لحية مظفرة وجرح قرمزي بطول خصره. يحبه الأطفال لأنه يقوم بتلك الحركة التي تبدو كأنه ينتحر، ويقلده المراهقون لأنه يدخن، أما العود فيتحمله لأنه فنّان في عمله؛ لا أحد مثله في مراقبة الطرق المهجورة بين القرى بينما تقطعها الشاحنة بسرعة الهارب من بركانٍ نشط.

رفض الزبّال اسم وظيفته المتعارف عليه «راصد الطرق». وعندما اعترض العود على لقب «الزبّال» لأن الاسم الأول هو الصحيح فهو يصف وظيفته الأساسية: مراقبة الأخطار التي قد تقابلهم في الطريق، رد الزبّال بغموض «أنا مابي المسمى الصح، أنا أبي الأسطوري». سيفهم العود قصده حين يرى جنازته  المهيبة، وعدد «الزبّالين» المتقدمين لخلافته.

في هذا العالم، يطارد الجميع الشاحنة طمعًا في الخردة التي تحملها، فهي تنقل كل شيء وأي شيء دون رقابة. كل ما لمع وبرق وكل ما يمكن تحويله إلى مكينة بخارية أو قطع غيار لمركبة. ولا أنسى أهم القطع، الأعضاء المقطوعة والمبتورة التي شكل بيعها نصف ثروة العود.

بسبب كل هذه الاحتمالات، عُرفت شاحنة الكيماوي بأنها كنز يجوب الأرض.

اليوم تأخرت الشاحنة عن موعدها المعتاد، فازداد المترقبون ترقبًا، أما من يعرف أهوال الطريق، ترقّب حدوث الخطر.

 

الفصل الثاني: 

أهوال الطريق

 

مؤخرة الشاحنة العملاقة مزودة بصفيحتين عاكستين تساعد الزبّال على الرؤية، لكنه يفضل التعلق بيد واحدة وإمالة جسده على الطريق ليرى أمامه. سئم العود إقناعه باستخدام الصفيحتين فأقنع نفسه أن الطريقة لا تهم طالما أن الزبّال لا يفوّت شيئًا.

الآن، وفي هذا الجو الغائم الحار تحت سحابة صيفية، دلّى الزبال جسده حتى أحس بحرارة الزفلت تلفح جبهته ولطمته بعض حجارٍ صغيرة نثرتها عجلات الشاحنة الكبيرة. 

وفجأة، رفع الزبال رأسه وضرب جانب المركبة مرتين.

أنزل العود الخشب الفاصل بينهما ولوى رقبته لآخر المركبة «مسلحين؟» رأى في عيني الزبّال لمعةً يعرف مصدرها، لمعة شخصٍ يجمع القصص الخطيرة كالكنوز «ما شفت، لكنّا قراب من البلاد، دوس وأنا بتولّاهم» هز العود رأسه «ولو طلعوا خطيرين؟» أمال الزبال جسده ليرى القرية القريبة «مستحيل، أظنهم أنصاف عقول بس» أقفل العود الخشب الفاصل بينهما وضاعف سرعته، وأما الزبّال فثبّت وسطه بحبلٍ سميك ربطه في إحدى العواميد داخل الشاحنة.

ظهرت سيارتين خلفه، السيارة عن يمينه فيها شخصان يحمل أحدهما بندقية والآخر مكبر صوتٍ مغناطيسي. والسيارة عن يساره فيها إثنان أيضًا، أحدهما يحمل سكينًا والآخر قوس رمي. قال من بيده المكبّر «وقّف على جنب يا راعي الكيماوية» لم يسمع العود أحدًا يدلّع شاحنته قط، كره الاسم. أما الزبال -الذي أعجبه الاسم- اقترب من العمود وضيّق الحبل القماشي حتى لم يبقَ فيه سوى نصف طوله.

التف للخلف وصرخ بذراعين مرفوعتين «قرّبوا، السائق أصم وأعمى وأبكم!» رد صاحب المكبر «وكيف يسوق هذا يا نصف عقل؟» ابتسم الزبّال واستطعم الدم في فمه مثلما استطعم رائحة المطر القريب «السيارة تقود نفسها بنفسها، هو يتحكم بالمقود فقط، يا أطلع بنفسي أوقفه أو تنتظرون وصولنا القرية» سحب صاحب البندقية المكبر وصرخ «كنت أعرف إن الكيماوية تستخدم السحر!» استعاد القائد المكبر وقال حذرًا «بنقرّب ببطء، أصعد معنا من النافذة».

اقتربت المركبة حتى كاد صدامها يرتطم بلحام الشاحنة، حينها رأى القائد الحبل الملتف حول الزبّال. 

رآه متأخرًا.

سحب الزبال بندقيته وقفز فوق مقدمة مركبتهم مفرغًا الرصاص على المركبة، ثم بينما يقفز عائدًا إلى مكانه تلقى طلقة على فخذه، حينها أخرج العود ذراعه ووضع المراية الملتصقة بها مقابل الشمس فانعكست الأشعة في وجوه ركّاب السيارة الأخرى.

رفع السائق يده ليحميها من الشمس، لكنه لم يجد شيئًا يحميه من رصاصة الزبال التي اخترقت رأسه فانسل نصف دماغه على المقعد كمادة مطاطية.

فتح العود الخشبة وقرّع الزبّال «ما كنّا نحتاج هذا الاستعراض» وأقفل الخشبة الفاصلة ورد الأخير يصل إليه مكتومًا «لما يسألونك، لا تنسى تقول إني قفزت برجل مجروحة».

 

الفصل الثالث:

الكيماوية

 

على حدود أسوار القرية، وقبل سماع صوت الشاحنة جزع أحد الأطفال؛ لم يحتمل كتم الفكرة داخله، فأخرجها كي لا تنفجر في بطنه «تخيلوا ما جاء؟» صفع أخوه الكبير شفتيه، وكأنه أتى منكرًا. مسح الطفل شفته الدامية مبتسمًا كأنما ضربت الفكرة ونزفت فماتت.

سمعت القرية زمير الشاحنة تقترب كالسحابة التي أظلمت المكان، فاكتظ المدخل بالأطفال عراة الجذوع، وصار لنوافذ البيوت أعين وآذان. زمّر الوحش العملاق مجددًا قبل ظهوره.

رأى الأطفال زجاج السيارة المصفحة أولًا، وخلفه هيئة شخصٍ مغطىً بالكامل، حتى أن عينيه مختبئة تحت نظارات سوداء. لا يظهر منه سنتيمتر واحد. يلبس الصفائح المدعمة، مدعوكٌ فوقها زيت الجوز وعلى كوعيه وكتفيه مرايا دفاعية. شكّل الأطفال قوسًا مفتوحًا عبرت من خلاله الشاحنة.

وحينها ظهر، كما يحبونه، كما تحببنه.

يتطاير شعره مع الهواء، تلبس إحدى يديه قفازًا أسودًا متعلقًا بالقضيب المعدني،  وتحيي الأخرى الأطفال. تقبض شفتاه على السيجارة الحمراء النحيلة. كان قليل الابتسام، وحتى ضحكته جاءت من عمق بطنه بلا تغيرٍ في شكل شفتيه.

لم يعرف أحد حقيقة ندرة ابتسامته غير الشيخ، ظن البقية أن جمود وجهه تفصيلةٌ غامضة أخرى في شخصيته المثيرة.

وعندما انتصف الطريق قبضت قلوب الأطفال، ووقفت الشعيرات في أذرع النساء، وانتظر الجميع تلك الحركة. وضع الزبال قدميه في حفرةٍ ضيقة صنعها داخل المركبة، آلمه الجرح في فخذه الذي ضاع لون دماءه في لون البنطال، عض على أسنانه وأدخل قدمه أكثر في الحفرة، مد ذراعيه، رمى رأسه إلى الخلف فانتبه إلى وجوه الأطفال الفرحة والجادة. في هذه اللحظة، يرون أعظم شيءٍ في حياتهم. لم يستطع مقاومة ابتسامته. انتشر طعم الحديد في فمه. رفع رأسه إلى السماء فرأى تلبّد سحبها، ترك يديه فطار جسده لا يثبته غير قدميه المتعلقتين بالحفرة.

في تلك اللحظة بدأت قطرات المطر بالهطول، وسرعان ما اشتد وأصبح غزيرًا، غُسِل وجهه بالماء دون أن تُطفأ سيجارته، واكتملت اللوحة.

 

الفصل الأخير:

شهاب

 

في مقرهم الصحراوي، أخرج العود أكياس الزبالة لفرزها، بينما جلس الزبّال ليرتاح من آثار الكيماويات التي أكلت جسده. «ما كان المفروض تُبلى كذيه» ابتسم الزبّال فأحرقته شفتيه «شفت كيف لحقوني؟» فتح الشيخ أحد الأكياس فرأى رؤوسًا وأجزاء بشرية رماها في المكان المخصص لها. «ووش فايدة المنظر الآن؟» اتكأ الزبال على عصا العود ليقف وعرج إلى العود «استحي اطلب من ربي شيء زيادة» يعرف الزبال أن العود لم يفهم، وعلى غير عادته أراد التوضيح «الله يرزقك سنين وسنين من الصحة يا عود، لكن أنا شهاب؛ أبي أعمي بنوري ثم أنطفي بنفس العنف، وترى بتلقى غيري». رد العود بصوته المبحوح وقد زادت دموع الشفقة بحّته «بس.. ليه؟» واكتفى الزبّال بالابتسام. قصةٌ طويلة، لم يعتقد أنها ستُفهم. شعورٌ غامرٌ بالحياة لا يتحقق إلا بالاقتراب من الموت. مللٌ مستمر من كل هذه العادية. نفورٌ من الانهيار المحتوم لجسده وذهنه وصورته عن نفسه.

هربٌ من الذبول البطيء إلى الانهيار المفاجئ المليء بالحياة.

في تلك الليلة رأى الزبّال في الظلال أشكالًا كثيرة عرف معها أن النومة الكبرى قادمة. ظلالًا لأطفالٍ يشيعونه، وآخرين يقلدونه، ونساءً هو فارس خيالاتهن.

لم تعد الطلقة في فخذه تؤلمه، أو السرطان في باقي جسده يؤلمه.

سقطت كتلةٌ من شعره على يديه، وأخرى وثالثة فوقف بجهدٍ مهول ومشى ببطءٍ تجاه العود ليسأله عن غراءٍ أو شعرٍ مزيف يثبّت شعره حينما يقوم بحركته الانتحارية، ولكنه وجده نائمًا فتمتم بصوتٍ مسموع «يالله معليه، بكرة بسألك».

كانت تلك آخر كلماته، وبعدها بدأت دفنته الأسطورية التي سُميت «دفنة النساء والأطفال»، قيل أن لا امرأة ولا طفلًا في جميع القرى التي مرّت بها الكيماوية تغيبوا عن الدفنة رغم صعوبة التنقّل، ورغم أن الفتى العشريني لم يكمل أربعة سنوات يعمل مع العود.

عجبتك القصة؟ 

اشترك في المدونة حتى لا تفوتك قصصٌ مثلها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
×