27

«معظم الرجال يموتون في الـ 27، لكننا ندفنهم عندما يصلون إلى الـ 72»
قرأت هذه العبارة التي تُنسب إلى الكاتب مارك تواين في المصعد متجهًا إلى عملي، صادفتني (أو صادفتها) قبل شهرين من دخولي للسن المذكورة في الاقتباس.
صراحةً هزّتني المقولة، رغم مناعتي القوية ضد الحكم الخربوطية التي يُفترض أن تكشف عنك الغشاوة وتغيّر حياتك فجأةً بعد قراءتها.
تجاهلت أثرها في البداية؛ حملتها من أذنها وحشرتها خلف أذني مع بقية الأفكار غير المرغوبة، لكن لعيون الصراحة، خلال هذه السنة أصبحت تربة عقلي أرضًا خصبة لنمو مقولة مثل هذه. فأنا لم أخسر في حياتي مثلما خسرت في السادسة والعشرين.
مع كل ترقية، وفرصة جديدة، وتنازل، كنت أبدّل أولوياتي قسرًا ولا شعوريًا. أصبح البريق في عيني يخفت تدريجيًا.. بطيئًا في البداية، ثم تسارع حتى أصبح الذهب اللامع صدئًا.
تحوّلت من الكتابة والقراءة والمشي وبقية العادات المحببة إلى روتينٍ يبدأ وينتهي مع بصمة الدوام، وانتقلت من تلقي أفكارٍ كريمة ترويني يوميًا إلى جفاف الربع الخالي، ومن كرسي مكتبي المتحرك الذي كسرته جزئيًا من فرط حركتي إلى كرسي أكبر حجمًا وأكثر مقاومة للحركة.
أصبحت أقضي وقتًا أكثر في مكتبٍ يفضّل مربعات برنامج الإكسل ذات الحدود الصارمة على بياض صفحات الوورد مفتوحة الحدود، وحل السكون و«التركيز» على الحركة والخيال الفوضوي، ولم أعد أجلس فوق الطاولة -وهي عادة غبية أمارسها لمّا أعجز عن التفكير- كل هذه التغيّرات التي طرأت على من تعرفه بمحمد يكتب حوّلته لمحمد يكذب على نفسه.
ولكن، ولعيون التوازن هذه المرة، سأستعين بكاتبٍ آخر لأروي القصة بطريقة أكثر تكاملًا وأقل بكائية؛ سأستعين بنموذج جوزيف كامبل «رحلة البطل» لأروي رحلة بطلٍ إلى عالمٍ مجهول دفع نفسه إليه بقراراتٍ بدت تافهة حتى تراكمت عليه*
*البطل هنا ليس مدحة، ولا غرور، هذا اسم النموذج!
بداية المغامرة
في بداية السنة كان البطل مرتاحًا في عالمه، وعارفًا له.
يسير ثابت الخطى إلى وجهتين معلومتين تغيّر حياة كل من يسير فيهما. واحدة شخصية، وأخرى مهنية. كل شيء كان زي بيتزا البيبروني (بديلًا عن كل شيء «زي القشطة» لأن البطل لا يحب القشطة).
لكن مثل كل رحلة بطل، كان في عالمه المعلوم مشكلة تكبر يوميًا، والشخص الوحيد الذي يستطيع رؤيتها هو أكثر شخص معمي عنها.
أصبح البطل عرضةً للتهاون والراحة، فالكرسي مريح، وحدود صفحة الإكسل تكبّل ولكن قد يُخدع الشخص بها فيظنها جدرانًا متينة يستطيع الاستناد عليها حتى لا يسقط في عالمٍ مجهول، عكس صفحات الوورد الفارغة الغامضة.
مساعدة خارجية
في رحلة هذا البطل، كانت «المساعدة الخارجية» دفعات صغيرة وقرارات أصغر تضعه في مشكلةٍ عويصة عليه التأقلم معها. فبعدما تخدّر وارتاح إلى مهامه المتعبة الروتينية، كانت الوتيرة تتسارع دون معرفته، وكلما اقترب من التمكّن من الإكسل وفكّر بإعادة فتح نافذة الوورد ليكمل قصصه، أظهر البرنامج الأخضر «Tabs» إضافية فيعود منشغلًا بها.
ثم جاءت الدفعة الكبرى؛ استقالت شخصيةٍ مهمة في قسمه فتغيّرت حياة البطل إلى الأبد.
المغادرة
إلى العالم المجهول انطلق محمد.
بصوت المهام الكثيرة، ومنظر المسؤولية المبهر، ظن البطل المغفل أن هذا الأمر المهم هو الأمر الأهم. فظن أن الإنجاز هو في هذا العمل الروتيني المجزي جدًا من جميع النواحي.
تقريبًا جميع النواحي..
الإدراك
لأول مرةٍ في حياته تُخسَف أولويات حياته. لم يعد جهده يكفي لإكمال مشروع قصة، أو خياله واضحًا لرواية أسطورة رجلٍ كبريتي ما زال لم يكملها حتى اليوم، أو حضوره الذهني كافيًا لملاحظة كل العلامات والتفاصيل التي كانت تخطر بباله كل يوم.
وأصبح كمريضٍ لا يمكن تشخيصه، شيءٌ بداخله يضايقه لا عين تستطيع كشفه سوا عينه.
التغير
وفي صباحٍ أظلَم، كُتِب له أن يصادف الرسالة التي أزعجته وهزته. «معظم الرجال يموتون في الـ 27 سنة، لكننا ندفنهم عندما يصلون إلى الـ 72» رسالةٌ درامية كان ليتجاهلها في أي وقتٍ آخر. لكن من حظوته أنها جاءت في هذا الوقت.
محملًا بهلعٍ وحنين، قرر استعادة البريق، فعكس ما ظنّه في البداية، علميًا، الذهب لا يمكن أن يصدأ.
دفع الثمن
ولكن الطريق وعرة؛ فالعادات تُبنى ببطء وتُهدم سريعًا، ولا يكفي تعلّم الدرس لتطبيقه، ولمعة الفتى مدفونةٌ تحت طبقة سميكة من الغبار، بل من شدة تشتت تركيزه، تسمية محاولاته الأولى «تركيزًا» هو إجحافٌ بحق الكلمة.
أما أقسى ما في الأمر، هو أنه دفع ثمنين، أحدهما سيتركه في ثنايا قصة مستقبلية لقارئ فذ يكتشفه، والآخر كان رجله الكبريتي، القصة التي سيُعاد اكتشافها -للمرة الثالثة، بعد أن أعيدت كتابتها مرتين- فهي أُهمِلت حتى قررت شخصياتها أن كاتبها غريبٌ عنها، وأصبحت ترفض أن تدخله أعماقها.
العودة
لكن ها هو الكاتب، في يوم ميلاده، عائدًا إلى عالمه المعلوم بعدما تعلّم درسه. ليبدأ رحلة جديدة، رافضًا الموت الرمزي في السابعة والعشرين، ورافضًا الموت الرمزي في أي عمر.
يعود بالتزامٍ جديد إلى رواية أخرى انتشلها -أو انتشلته- في لحظة يأس، كما يعود بدرسٍ تعلمه عن الموازنة الضرورية بين حياة الكبار ثقيلة الدم، وحياة الخيال التي تذوّقها وأدمنها في طفولته، تلك الحياة التي كادت أن تفلت منه في السادسة والعشرين.
كل عام وهو بخير.. كل عام وهو يكتب.
توتة توتة..
خلّصت حدوتة وبدأت حدوتة.
عجبتك القصة؟
اشترك في المدونة حتى لا تفوتك قصصٌ مثلها