قصة

موت في طريق الكُر

هذه قصة مفرطة في واقعيتها لرجل وجد قطعة ذهب داخل سيارة محترقة

هذه قصة لو كُتِبت في وقتٍ سابق لوجدتها في كتاب ألف ليلة وليلة.

معذرةً أتراجع عن كلامي.

هذا الإدعاء سيظهرني مغرورًا، وهذا مظهر سيء لأي حكّاء. بالإضافة إلى أن القصة التي سأرويها لك لا تُذكر فيها أعضاء الرجال والنساء كفاية لتُضمّ مع تلك القصص، وحتى جرأتها لا تتجاوز دماغًا مفتوحًا تقطّر منه دماء رجلٍ ميت، ويدًا مقطوعةً ما تزال متروكةً على جانب الطريق.

حصلت القصة في مكة، ليست مكة التي تعرفها، بل أقصى غربها خارج حدود الحرم، في الطريق الذي يربط بينها وبين جبال الهدا. تحديدًا في المنطقة المقفرة بعد جامعة أم القرى وقبل التفتيش المعروف عند أهل مكة بتفتيش الكُر.

اليوم أصبحت تلك المنطقة منتعشة بفضل محطات القطار ومشاريع الترفيه وتمدد حدود الجامعة، أما في زمن قصتنا كانت تلك الرقعة خواءٌ حاضنٌ لصدفةٍ مميتة.

وقبل أن تُستمال بطبعك الإنساني الساذج إلى شخصيات القصة، أود أن أخبرك بأن هذه قصة ليس فيها بطلٌ أو شرير، لا ضحية ولا مجرم. ولا أقصد التعريف القانوني أو الديني للمصطلحات، بل حكمي نابعٌ عن التصرّف الغريزي المتوقع في المواقف الخطرة. ومثل هذه القصص متوقعة من راوٍ مثلي لا يؤمن بحكايات الأبطال. حتى لو رويت قصتك أنت، ما كنت لأكتبك بطلًا فيها.

ها أنا أعود إلى طبيعتي المنفرة. 

آسف..

أعدك أن أحاول كبح نزواتي.

الحقيقة هي أني شخصٌ كريه، ولو قابلتني يومًا لما استلطفتني. لكنّي سأجبر نفسي على التهذيب وأعيد صياغة جملي المنفرة: هذه قصة مفرطة في واقعيتها لرجل وجد قطعة ذهب داخل سيارة محترقة.

 

 

«آها.. آها»

«لمتى؟»

«آها»

«…»

توقّف الصوت من الجهة الثانية. نظر أحمد إلى هاتفه، ما زالت ثواني الاتصال في ازدياد. تجاوزت المكالمة ساعة وثلاثة عشر دقيقة وعشرين ثانية. ساعة وربع! لو كان أمره في يده لما وصلت المكالمة نصف هذا الرقم.

انفتحت أذنه قليلًا فسمع أنفاسها، همس: «ألو؟»

«ممكن تقول لي» تبدّلت نبرتها؛ لا تستخدم وقفاتٍ بين الكلام بهذا الشكل إلا حين تكون غاضبة، «أيش كنت أقول؟»

«تطلبين مني أنا» رفع صوته إلى حدٍ كوميدي، «أقول لك أنتِ» زاد في مط الكلام وطالت سكتته بين الكلمة وزميلتها، «أيش أنتِ» وقفة قصيرة هذه المرة، «قلتِ؟» ثم كرر بلسانه ذلك الصوت المكافئ لكلمة «لا» الذي رغم أنه يُنطق ولا يُكتَب إلا أنكم جميعًا تتخيلونه يُكتَب بحرف طُـ أو تُ فوقهما ضمة لسببٍ ما.

ضحكت وارتفع صوت ضحكتها.

هكذا أخرج نفسه من عتابٍ كان سيمتد حتى تنقطع تغطية شبكة الاتصال عند صعوده جبال الهدا. لم يخطر بباله إطلاقًا أنه لن يصعد هذه الجبال مرةً أخرى.

لا يتوقع الأشخاص مثل أحمد أن يحصل لهم أي شيء خارق. ولو عدت بالزمن وأخبرته بما سيحدث في الصفحات التالية، ثم طلبت منه أن يحدد احتمالية حدوثه له لضحك حتى فقد نفسه. يدخل هؤلاء الأشخاص معتادي الخيبة مثل أحمد في هذا المزاج؛ يموت فيهم الإبداع وتُصبِح الأحداث الخارقة مستحيلة الحدوث لهم في وجهة نظرهم.

أحمد لا يستبعد إصابته بالسرطان أو بنوبة قلبية، ولكنه مقتنعٌ تمامًا أن السماء أقرب إلى الأرض من قرب حدوث ما سيحصل له في النصف ساعة القادمة.

يا حرام.

شعر الرجل الذي لم يبلغ واحدًا وثلاثين عامًا أنه بخير، بل في أحسن حال فهو استخرج ضحكة من خطيبةٍ غاضبة، ثاني أصعب إنجاز في ذهنه، بعد استخراج ضحكةٍ منها حينما تصبح زوجة غاضبة.

وحتى لو لم يظفر بالضحكة، لأشغله المنظر على أية حال؛ ففي الأفق ظهر خيطٌ أسود من الدخان متخففًا من الأرض ليعود إلى السماء، حيث تنتمي كل الحياة. عندما اقترب من مصدر الدخان رأى النار فعلّق ببلاهة، «قدّامي سيارة محروقة» أبطأ سرعة السيارة وأنزل الزجاج.

«أيش؟»

أعاد بهدوء، «قدّامي.. سيارة.. محروقة»

ردت بنفس الهدوء المتململ، «أنتبه.. لا تنفجر.. في وجهك»

اختلط صوتها بالأغنية التي صدحت من مكانٍ ما داخل السيارة المقلوبة، كان شكلها كصرصور مقلوب. رغم اعتباره نفسه ضليعًا بالموسيقى إلا أنه عجز عن تسمية الأغنية.

ابطأ سرعة سيارته من عشرة إلى صفر، وأذعن إلى صوتٍ يخبره بحتمية نزوله. مشى باتجاه المركبة متنقلًا من دواسة البنزين إلى الدوس على التراب. يعميه ضوء الشمس الحاد وتحشو أنفه رائحة احتراق المعدن الكاتمة. يرفع يده إلى حدود عينيه ليحجب الشمس، ثم ينزل بصره حتى يرى خيط الدخان، وتتم عينه نزولها بوصولها إلى السيارة السيدان وقد تحوّل جسدها إلى مكعبٍ ينتؤ منه حديدٌ عشوائي. 

يسعل مرتين ويكمل مشيه.

فرشت بقايا السيارة المهشّمة طريقه فداسها مكملًا تحطيمها. عندما رفع عينه من الباب إلى السيارة المهشّمة، كان صوت الأغنية المجهولة قد وصل إلى قمة القبح. أخرج جواله وشغّل برنامجًا للتعرف على الأغاني. قرّب هاتفه من المركبة حتى لُسعت يده بالمعدن المحروق.

رغم قربه عجز البرنامج عن معرفة الجواب. 

أخيرًا استوعب النبيه احتمالية وجود رجلٍ داخل السيارة. رجلٌ على الأغلب يتحول جسده إلى خبزٍ يابس مع مرور اللحظة. تخيّل أهل الفتى يكتشفونه في حالته هذه، محترقًا داخل سيارةٍ مهشمة بينما صوت مغنٍ مشوّه يزف منظره. تخيّل أم الرجل المحترق، وأمه هو -من شطحات خياله التي تظهر فجأة أن يتخيل أمًا رغم موتها أثناء ولادته-، ونورة (أم زوجته).

وقف ببلادة ينظر إلى أمرٍ قد انقضى وعقله البطيء يفكّر بكل الاحتمالات.

أعرف أني وعدتك بالسيطرة على نزواتي، ولكن تخيّل أن أحمد يملك خيالًا قاصرًا وغير قابلٍ للتنبؤ إلى الحد الذي جعله يحكم أن المحترق رجل. وهذا افتراضٌ قد يكون معقولًا حتى تعرف أن السبب الوحيد لافتراضه هو أنه أجرى محادثةً مع عقله انتهت إلى قوله بصوتٍ مسموع أنه لم يرَ في حياته امرأة في حادثٍ شنيع. إلى هذا الحد من تظن أنه «بطل القصة» بليد الخيال.

حسنًا، نعود إلى أحمد وخطيبته وتحذيرها.

تحذيرها بدا ساذجَا، كيف ستنفجر السيارة على من هم مثله؟ حتى القلق الطبيعي في صوتها وصله سخيفًا مبالغًا. فقراره بأنه لن يمس بأذى كان قرارًا نافذًا ونهائيًا، لا سيما أنه يستطيع رؤية نفسه في الشركة يوم الأحد. يجلس أمام نفس الجهاز وعلى نفس الكرسي ويقوم بنفس المهام ليجمع مبلغًا لا يهم من المال فيصرفه على حياتهما.

هي كانت جزءًا من البلادة والخيبة العامة التي تراكمت فوق رأسه الفارغ، ولكنه لم يعرف دورها قط.

امتد بصره إلى المقاعد الخلفية، لم يجد أحد هناك. السيارة خالية تمامًا. حرّك رأسه جهة اليمين، لا أحد. عاد خطوتين إلى الخلف وعينه مسمرة في المكان ذاته، عاد خطوة أخرى فأصبح أمام الشنطة المنهارة على نفسها. ومن فتحةٍ صغيرة خرج خيطٌ ذهبي لمع على جبهة أحمد. مد يده إلى الشنطة التي رفضت الخضوع. حرّك رأسه بيأسٍ يبحث عن حجرٍ أو زجاجٍ… أو عصا!

حث المشي إلى مكان العصا مهشمًا ما تبقى من المرآة الجانبية. أحب صوت فرقعة الزجاج تحت حذاء أديداس الأبيض. طرب.

كان يلبس ثوب وحذاء رياضي، هذا ذنبٌ آخر غير البلادة لن أخوض فيه الآن!

تناول العصا ونظر إلى الشنطة كما ينظر زوجٌ لزوجته في أولى لياليهما. وضع العصا في الفرجة الضيقة ورفعها فتحوّل الضوء من نقطةٍ صغيرة لامعة إلى مربعٍ كامل يشع على وجهه الشبيه بالمربع. أسقط العصا من يده وارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ رطبة، وبينما يحصل كل هذا كانت خطيبته تناديه دون أن يسمعها.

كما أنه لم يسمع السيارة الأخرى التي وقفت خلفه…

صرخ الرجل الذي ظهر خلف أحمد (فجأة على حد ظنه): «وش تسوي؟»

قالت خطيبته: «بسم الله!»

كرر بسملة خطيبته مخاطبًا الرجل، «بسم الله!» ثم طلب منها أن تصمت واستدرك، «حادث.. الله يرحمه»

سألت خطيبته، «مين هذا؟» أقفل المكالمة في وجهها.

رأى أحمد الذهب يلمع على جبهة الرجل الذي أخفض عيناه حتى أصبحت السبيكة في مرماه، ثم قال الرجل، «في مكة، ما يجوز تلقط شيء ضايع»

رد أحمد بتحدٍ لا يليق به لم يعرف دافعه، «حنّا خارج حدود الحرم» ثم مد يده بهدوءٍ شديد، والعينان في تلاقٍ لم ينفصل، وعندما مس الذهب، وجد يدًا أخرى تمسك به. كرر أحمد كلام الرجل، «في مكة، ما يجوز تلقط شيء ضايع».

رد الرجل، «أنت تقول إنه ميت…» أنتبه أحمد إلى جروحٍ عميقة في خد الرجل كما أنتبه إلى الشيب يكسو وجهه، ومن تحت كوفيته المغلقة ظهرت شعراتٌ رصاصية. أكمل الرجل، «الميت يترك ما يضيّع» وببطء حرّكا عينيهما إلى الذهب في الشنطة المفتوحة. كان الذهب مغريًا في كلا العينين، بالإضافة إلى قيمته المادية فكلاهما أضاف لنهاية كلمة ذهب حرف الياء.

«شفته قبلك»

«لمسته قبلك»

«فتحت الشنطة!»

يرد الرجل، «الذهب ظاهر أنت ما اكتشفته» ومع خروج حرف الهاء يرى أحمد الرعشة في شفته، رعشة دعته ليأخذ حقه بيده. يستجيب أحمد لدوافعه المفاجئة الغامضة، وينطح الرجل. في ظنه أن هشاشة الرجل سبب سقوطه، وهذا غير مستغرب على شخصٍ اعتاد البلادة مثله.

أما السبب الحقيقي فكان غضروف أنف الرجل الذي تهشّم في ثلاث مواضع وعروق أنفه التي تمزّقت في المنخارين بعد النطحة.

وأما دوافع أحمد فسأخبرك عنها لاحقًا.

يصعد سيارته هاربًا بالسبيكة وتاركًا الرجل دائخًا خلفه. يراه يركض في اتجاه سيارته، فيدبّل الدعسة وينطلق في الطريق. تصغر سيارة الرجل شيئًا فشيئًا حتى تذوب تحت الشمس تمامًا ولا يبقى سوى الطريق الرمادي الضخم الخالي من أي سيارةٍ أخرى، كعادة خط الكُر في هذا الوقت من السنة والشهر والأسبوع واليوم والساعة.

ثلاث مساراتٍ ضخمة مستقيمة فارغة ولا صوت غير المكيف الذي يهدر بهدوء ونبضات قلبه المتزايدة. تشاغل بالبيوت التي تعمر قرى الكُر التي تظهر في أقصى اليمين. بعيدة عن الطريق أقرب إلى الجبل. سكّانها إما في مكة يتسلّون، أو في الهدا يتبردون. 

تُركت البيوت خاليةً لا يشغلها غير شهادتها على السيارة التي تسير بثبات وسرعة، لا مركبة في يمينها أو يسارها، فقط عجلاتها تسير بسكينة.

غريب أن الجمادات لا تتفاعل معنا أليس كذلك؟

كأنها لا ترى ما يستحق اهتمامها.

هذه الأفكار تشعرني بالوحدة والفراغ نوعًا ما.

لنعود إلى أحمد…

عند انتقال عينيه من مراقبة البيوت البنية إلى مرآته الخلفية كان الطريق ما زال خاليًا.. وعندما عاد ينظر إلى الطريق أمامه وجد وانيت أبيض يهم بمشاركته وحشة الطريق.

تتقابل عينه وعين قائد المركبة حين يمر بمحاذاته، ولأول مرةٍ يسأل نفسه: ماذا تفعل؟ ومن فرط صدمته يكرر السؤال بصوتٍ أعلى ثم يضحك، عندما ينظر إلى المرآة الخلفية يتلاشى الصوت من ضحكته بظهور سيارة الرجل المنطوح.

ينتقل رأسه بآلية إلى الوانيت عن يمينه فيجد صاحبه يحدّق فيه ثم يُشير إليه بالنظر في طريقه.. رغم أن الطريق خالٍ أمامه. أما عن يمينه ويساره فأصبحت السيارتين تحاصرانه. يكرر السؤال، ماذا تفعل؟ لم يستطع التفكير في جوابه فالسيارتين تقتربا.

حتى في هذه اللحظة الخطرة، لم يعتقد أن شيئًا سيحدث.

قبل أن تتهمه بالصفاقة من واجبي كراوي هذه القصة أن أرسم لك صورةً أوضح عن أحمد. ولا تظن أني سأتغافل عن واجبي في قول الحقيقة خوفًا من سخطك على قطعي للدراما والتشويق. أحمد إنسان! ولا تظن أني سأخاف منك لأن وجودي يعتمد على قراءتك. أنا أفضل الفناء على الرضوخ لك.

أما إذا كان اعتراضك بسبب حرصك على البطل الساذج، فلا عليك يا رهيف القلب هو لن يموت حتى نعود إليه. لو كنت صادقًا في اهتمامك لن تغضب على هذا القطع؛ ففي عودتنا إزهاق روح.

أيضًا، لا تنسى أني وعدتك بشرح دوافعه!

أحمد رجلٌ يعمَل كل يومٍ من الساعة الثامنة وحتى الخامسة. راتبه يكفيه ولا يكفيه بتلك الطريقة المعقدة للرواتب في هذا الزمن الغريب الذي نعيشه. أنا متأكدٌ أنك تعرف قصدي لذا لن أطيل الشرح. سيتزوج أحمد الشهر القادم. زوجته فتاةٌ خلوقة، ولطيفة، وجميلة، ولا تناسبه إطلاقًا.

لا يمكن الإشارة إلى سببٍ بسيط يبيّن لك بوضوح لمَ هما غير متناسبين. بل أي شخصٍ يستطيع أن يتخيل، بدون الحاجة إلى قدرٍ خلّاق من الذكاء، أن يراهما زوجين متحابين. لكن مشكلة أحمد هي أنه ما يزال متعلّق بقدرٍ بسيط من خياله حتى بعد فقدانه لجرأته. وهذا سيشكل مشاكلًا كثيرة في مستقبل الزوجين فخطيبته تخلّت عن خيالها واعتنقت البلادة.

وفي حال كنتِ قارئة تريدين التعليق على ذكورية أحمد أو ذكوريتي كسارد هذه القصة والمتحكّم بشخصياتها. أريد أن أطمئنك أن مشكلة أحمد ليست في زواجه فقط، فما يزيد حالته الغريبة غرابة هو أنه موظّف في شركةٍ بسلمٍ وظيفي متوقع ومنصبٍ غير مضمون. متأكدٌ من معرفتكم لهذه المعادلة التي ستحتّم على الموظف الركض المستمر في عجلة الهامستر.

أحمد كان وحيدًا تمامًا. والده الطيب ليس حكيمًا فيعلّمه الخروج من دائرته، ولا غنيًا فيخرجه بماله، ومثل ابنه لم يكن له أي نصيبٍ من الجرأة أو الذكاء فيعوض الفتى عما ينقصه. وأصدقائه المقربين لا يبتعد قدرهم كثيرًا عنه. حتى من كان منهم طبيبًا أو يعمل في جهة حكومية متجهٌ إلى نسخةٍ مختلفةٍ قليلاً من نفس المصير.

ذنب أحمد الأكبر هو ما لمحت له سابقًا، خيالٌ ذابل ما يزال يخرج بعشوائيةٍ هنا وهناك. هذا الأمل الزائف لم يغادره منذ كسب ثمانية آلاف ريال ببيع عسلٍ أصلي جاء به من ديرته. توقف متجره عندما نشفت الخلية وماتت الشجرة بعد شهرين، ولكن احتمالية التغيير بقيت ملازمة له وتأصلت في شخصيته بشكلٍ يتعذر تتبعه. 

أخبرني قبل أن تتهمني بأني حكّاء رديء، كيف يفكّر رجلٌ يعيش بهذا القدر من العادية أنه في خطر حينما يقوده دافعٌ داخلي جارف ليخوض مغامرةً مسلية تعوضه عن حياةٍ من البلادة؟

والآن لنعود إلى أحمد، سواءً اقتنعت برأيي عما كان يدور في رأسه أم لا.

تتوقف السيارتان عن ملاحقته فجأة، فدوريةٌ مسرعةٌ بجنون ظهرت عن يساره، تمر الدورية ويهم بالبقاء لصيقها حتى يستطيع الهرب. إلا أن سوء إدارته لراتبه الذي أخبرتك بظروفه حالت بينه وبين إدخال سيارته إلى الصيانة. تنتع السيارة، ويصيب حساس الكرنك فيها عطلٌ كان يستطيع الفني حلّه في أقل من ساعة. 

لكن الفني يجلس الآن في الجهة الأخرى من مكة.

وهكذا تفوته دورية الشرطة التي اتجهت إلى وكر العصابة (المشغول إثنين من أعضائها بمطاردة أحمد!).

فور اختفاء الدورية، تقترب سيارة الرجل ذو الأنف المكسور، الذي لم أخبرك بقصته ودوره في ارتطام المركبة وموت راعيها لأني أريد أن يُصَب تركيزك على قصة أحمد. على أية حال، كان هذا الغاضب بأنفه القبيح هو من صدم أحمد.

يفقد أحمد السيطرة على سيارته.

خلال سبع ثوانٍ، تتخطى العجلات الخط الأصفر وعيون القطط وتخترق الحاجز المعدني الفاصل بين المسارين، ثم تمشي كسهمٍ مخترقةً الخط الثاني لتستقر أخيرًا في شبك الأمان المعدني.

حينما جاء صاحب الأنف المكسور ليأخذ السبيكة الذهبية من حضن أحمد، كان حزام الأمان يمنع جسده من السقوط على الإسفلت. ورأسه يتدلّى بالقدر الذي يسمح بنزول الدم قطرةً قطرة.

أوه.

لا تقلق على أحمد من النزيف.

في هذه الساعة كان قد مات؛ قتله العمود المعدني الذي اخترق رأسه من تحت محجر عينه الأيمن وأكمل طريقه عبر الزجاج الخلفي معلّقًا السيارة في الهواء. كنت سأخبرك عن عصارة عينه اللزجة التي دهَنت الحديد وبؤبؤه الأيمن الذي تراقص في حضنه وبقية أعضاءه، إلا أني وعدتك بمحاولة كبح نزواتي لذا سأكتفي بهذا الوصف حتى لا تظنني اتشفى بموته. 

لست فرحًا ولا اتشفى، جل الأمر أني غير مستغرب من النتيجة. 

حتى الإمساك بجميع أفراد العصابة بعد أيامٍ قليلة من قصتنا غير مستغرب.

عاد صاحب الوانيت الأبيض إلى بقية الذهب الذي لم ينتبه له أحمد. وعلى عكس يد الرجل الميت التي لم تُدفن معه، وُجِد كيس الذهب في مكانه.

أخ.

كيف لهذه القصة الكئيبة، المتشائمة، السخيفة أن تكون في ألف ليلة وليلة…

عجبتك القصة؟ 

اشترك في المدونة حتى لا تفوتك قصصٌ مثلها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
×