المشهد واضح من زاويتي. قرّب المجرم علبة البيبسي بالكرز من وجهه، ثم ترك باب الثلاجة الزجاجي يُغلق بقوةٍ أسقطت جزءًا من شريط الحماية البلاستيكي، الذي جعله يرتد مفتوحًا قبل أن يُغلق مجددًا. مشى إلى البائع وتأمل وجهه للحظة، صحيح أني لا أستطيع التقاط الأصوات ورؤيتي محدودة في اللونين الأبيض والأسود، ولكن دقة تسجيل عيني للصورة تؤكد أنهما لم يتبادلا كلمةً واحدة.
وضع الشاب العلبة الغازية على الطاولة الزجاجية ثم أخذها وخرج. مال العامل فوق الزجاج يراقبه، ثم قرر اللحاق به. ولأوثّق المشهد التالي، استعنت بعيني زميلي التي تغطي المحيط الخارجي، بما إن حدود بصري تنتهي عند باب الخروج.
فور استعارة عينه، رأيت الشاب المجرم في وضعٍ عدائي خارج البقالة. جسده ينتفخ ويتنسّم. يمسك بعلبة البيبسي كأنها حجر أو سكين. اختار سلاحًا سيتطلب جهدًا ودقةً خارقة لقتل ضحيته. أي أن نيته ليست القتل. نظر العامل إلى الجهة الأخرى حين خروجه، فاستطاع الشاب مباغتته بضربةٍ في قفاه، وانفجر البيبسي الكرزي من العلبة كماءٍ داخل بلونةٍ طُعنت بإبرة. سقط العامل على وجهه، ووقف المعتدي فوق جسده المسجّى.
شهد الجريمة عاملٌ في الشارع الآخر، ولكنه أشاح عنهما وأكمل طريقه. كما رأته فتاةٌ تجمدت مكانها. كان جسدها ضئيلٌ وسهل الاستهداف، من حسن حظها أن المجرم انشغل بأمرٍ غامضٍ آخر. مسح يده على قميص الضحية وغادر مسرح الجريمة.
في الساعات التالية جاءت الشرطة، والإسعاف، وتجمّع الناس تباعًا.
هذه هي الحقيقة.
القرد في عين أمه
«وإذا كان فيه تسجيل؟»
ارتفع صدرها حتى كاد يلامس ذقنها. شهقت ولم تزفر. قبضت بشدة على كتلةٍ من شعرها الذهبي. زمجرت في وجه ابنتها عندما أرادت تنظيف راحتها من الشعر. تنفست بتقطع؛ هذه أول مرة يرتكب أحد أبنائها جريمة. اثنا عشر ابنًا وثلاث بنات. لم يخرج من رحمها ضنًا غير مهذّب، فما بالك بمتهم بارتكاب جريمة.
لم يعتدِ على العامل لأن ليس بوسع أي شيءٍ تفرّع منها أن يرتكب جريمة.
«تظنوا إني أصدّق آلة باردة وأكذّب دمي وحشاي؟»
شخصت كأنها تراجع دروسها وتربيتها. ثم صرخت فجأة بعد صمت.
«مو هم قالوا إن الكاميرات ما فيها صوت؟ طيب يمكن العامل قال شيء استفزه؟»
تحلّق حولها معظم أبنائها، ولم يتجرأ أحدٌ منهم على معارضتها أو مجاراتها. في العادة يشاكسونها بأن هذا ما جنته على نفسها بدلالها المفرط. لكن هذه المرة ابتلعت الشفقة كل شيء، حتى غضبهم على أخيهم الصغير الغريب.
«ما أحد غير سالم طبب أبوكم وهوّن عليه»
حدّقت في جميع الأعين الحاضرة، لتتأكد ألا يظن أحدٌ استثناءها له.
«أول ما ضاعت ذاكرته نسيتوه.. كلكم شفتوه شايب مخرّف، إلا هو ما شافه إلا أبوه»
ضرب سالم العامل بسلاحٍ أفقده بصره، كل الجالسين في المجلس الأخضر الذهبي عرفوا هذه المعلومة. كما عرفوا أن أعين سالم لا يعول عليها وما «يشوفه» سالم وما لا يراه أحيانًا لا ينتميان إلى الواقع في شيء. كلهم إلا هي.
«طيّب كلموهم يجيبوه لي خمس دقائق بس.. الله يخليكم»
تذكرتهّ، صغيرها الذي اعتاد اللعب بشعرها بينما يستلقي على حجرها ويخبرها بأفكاره الجنونية حول مستقبلٍ مليء بالفنون والمحادثات الفارغة المتخيلة. عجزت في هذه اللحظة معرفة سر يده الخفيفة، فهي كلما حاولت أن تخلل يدها في شعرها، تُتنزَع في كل مرةٍ كتلٌ ثقيلة، وتؤلمها الجذور في رأسها الدامي لكن يدّ سالم لا تؤلم ولا تنزع. تحت تأثير القلق الأمومي، لم ترغب أن تفكر حتى في نوع العقوبة التي سيتلقاها.
سالم المدلل، سالم الهادئ، سالم الغريب!
اللي يده في الماء
«عساه ما يخرج!»
«قل يا لطيف يا رجّال ما تدري وش خلاه يتصرف كذا»
داخل بقالة مقابلة لتلك التي حصلت فيها الجريمة تناقش شابان حول ما حدث قبل أيامٍ قليلة بينما يقتنيان حاجتهما من البروتين اليومي…
«زبادي يوناني.. لا، عطني النكهة الجديدة اللي بالكرز»
وحاجتهما من السرطان…
«لا.. أبي الدخان الأسود، ذاك اللي عليه الرجّال اللي حلقه منفوخ»
وقفا أمام علي المجنون. بائع البقالة الذي وسم بالجنون بسبب استعاضته عن الكلام برسم ملامحٍ مبالغة، كأنه يرغب الحصول على دورٍ في مسلسلٍ تجاري يستهدف المراهقين.
«يقولون إنه مجنون…»
نظر علي إليهما، فاتسعت عيناهما ووضع صاحب علبة الدخان كفه على صدره. ثم قالا في اللحظة نفسها:
«المعذرة علي»
ضرب الأول عقِب علبة الدخان بينما وضّح الآخر.
«نقصد مجنون ثاني»
رفع راعي البقالة حاجبه الأيمن، واكتفى برسم علامة الجنون حول رأسه.
«من يقوله؟»
«من يقول وش؟»
«من يقول إنه مجنون.. يا ذاكرة الذبانة»
لم ينظرا إلى علي هذه المرة. اكتفيا بتبادل نظرات حادة. أخيرًا قال صاحب الزبادي اليوناني.
«أبو محمد يقوله»
«خل عنك يا رجال. أبو محمد خرّاط، الرجال ما فيه إلا العافية»
«هذا اللي كنّا نحسبه»
«تخيل إنك تطعن واحد بسكين لين يموت عشان 300 ريال!»
لا يرد صديقه، فينظر إليه منتظرًا ردًا ضروريًا.
«والله أنت تشوف الغلاء…»
«الغلاء!»
«أنت الحين أنت بكم مأخذ هالعلبة هذه؟»
سحب علبة السجائر من يد صديقه، نظرا إلى علي الذي رفع ذراعيه إلى السماء كأنما ينفض عن نفسه تهمة الغلاء بينما أشعل صاحب السيجارة دخانه.
«يعني نطعن أبو علي عشان سرطانك ارتفع عشرة ريال؟»
ردًا على اقتراحهما رفع يديه مستسلمًا وأصدر صوتًا معترضًا.
«أسمه علي! وما قلت نطعنه بس الغلاء شين الصدق»
«الغلاء شين والصلاة زينة.. كلنا ندري إن الغلاء شين»
«ما أتفق معه، لكن والله أفهمه»
يمد صاحب الدخان ذراعه ليغطي إذن علي بكفه المحررة من الدخان.
«عاد سمعت إن أمه تدلعه، لكن أبوه شاد عليه، شكل هذا اللي جننه»
«بقريح يا رجّال، وش الجدول…»
وخرجا إلى الشارع. كانت البقالة في نطاق نظرهما، ولكنهما لم ينظرا إليها.
تجربة سالم الذاتية
2008/10/03
نظر إلي العامل «مؤمن» بشرز، كأنه يريد توبيخي على أمرٍ غامض لا أعرفه. متأكدٌ أنه كان السبب في ضرب أبي لي. ماذا قال له. لم يؤلمني الضرب، ولكني تساءلت عن سبب كرهه لي.
2010/05/15
مؤمن لا يُحبني، يريد اقتلاع عيني أو على الأقل إبراحي ضربًا. نظراته غريبة. أحيانًا أشعر بأنه يتمادى بالنظر إلي. أبي لا يسمع، كلما أخبرته بنظراته يقول لي أني أهذي. أبي يهذي، ذاكرته بدأت تنزلق من يدي عقله. ملاحظة: بالأمس تحدثت مع ظلٍ أسود غريب في زاوية الغرفة، كان حديثه لطيفًا وغريبًا ولكنه رفض الخروج من زاوية الغرفة، يقول أخوتي أني مجنون. أظنهم يغارون من محادثاتنا.
2014/07/10
زاد وضع مؤمن عن حده. أصبحت أراقب الأرض كلما أمر من جهته. قبل أمس ركّز أعينه وبقوة الكراهية أخرج نارًا كادت تحرقني لو لم ابتعد في الوقت المناسب. لا أتحدث عن المجاز، بشرتي فعلًا منتفخة وحمراء، يبدو أن عنده قدرةً ما. لا أستطيع إخبار أحد بما حدث. لم أعد أريد الذهاب إلى بقالته، ولكن الظل الغريب يحذرني من الخطر إن رآني أذهب لبقالة أخرى. ربما يلحق بي في ممر حوش المنزل المظلم ويعتدي علي. لم يعد أخوتي يظنون أنني مجنون، فأنا توقفت عن إخبارهم عن محادثاتي مع الظل في غرفتي. لن يفهموا.
سعيدٌ أن الظل أصبح بإمكانه التحرك بحرية في غرفتي.
2019/09/13
والدي الوحيد الذي يسمع محادثاتي مع الظل الأسود. يهز رأسه بصمت المستمع بينما أخبره عن المواضيع الغريبة الإبداعية التي لا تستطيع أن تخوضها إلا مع شبح أو فنان. أخبرت أبي بأني أريد أن أصبح فنانًا. نسي المعلومة كبقية المعلومات، ولكنّي سأذكره كلما ينسى. لا أريده أن يموت ناسيًا هذه المعلومة، فهي ستشكّل حياتي. أشعر بأني أملك نفس مرض أبي، صحيح أني لم أخرّف بعد، ولكني أصبحت لا أميّز مرور الوقت. لولا هذه التواريخ التي اكتبها ما عرفت أي يومٍ هو اليوم.
*ملاحظة: تأكد من صحة التواريخ.
2021/06/15
سأقتل مؤمن. اتخذت قراري. صحيح أن التشويش يسود المشهد، إلا أني أظن هذا القرار الصحيح. اليوم وصل إلى أقصى حدود التمادي، عندما التفت عليه مصادفةً تفاجأت به يحمل سكينًا يلوّح بها في الهواء. لو لم التفت لطعنّي. تظاهر بأنه يريد بيعها ووضعها فوق رف الأواني المنزلية.
صرت أرى شهبًا تسقط من السماء كلما أغمض عيني. ولا أميز إن كنت أحادث الظل أو أخوتي. أظن أني في طور التحوّل إلى فنان. نعم هذا السبب. تلك المحادثات لا يخوضها إلا شبح أو فنان. لذا أصبحت محادثاتي غريبة. بينما أمسّد رأس أمي المسكينة أخبرتها. ليس عن قرار دفاعي عن نفسي أمام مؤمن، لن تتفهم. بل أخبرتها عن رغبتي بأن أصبح فنانًا. لم تقل شيئًا فقط تأوهت وتأوهت بينما أفكك خلاياها العصبية المشدودة. مسكينة أمي. رأسها مشدودٌ كأنها لم تحظى بلحظة استرخاءٍ واحدة في حياتها، كأنها ولدت في مصحة نفسية أطبائها المرضى.
2024/10/03
اليوم سأري مؤمن أني أستطيع الدفاع عن نفسي. أخبرني أبي أن قتلي له بدون دليل سيوقعني في مشكلة مع القاضي. أتفق الشبح معه. الشبح لم يعد مختبئًا في الغرفة فقط. بل أصبح يسرح ويمرح في كل المنزل. أراحني خروجه، فالآن أصبحت أعرف أني لا أستطيع الحديث معه إطلاقًا حتى لا يعود أخوتي لاتهامي بالجنون. عندما أرمش تزداد قوة السحر لسببٍ ما. أشعر بحرارة الشهب الساقطة تلسع أطراف أصابعي، وأسمع خطوات حوافر الشبح، وأرى البوابات كلها تفتح لي لأقفز من خلالها. هناك عالمٌ يناديني.. عالمٌ لن يمنعني عنه مؤمن وسكينه.
في الليل أراني الشبح أطفال مؤمن، لم يرهم منذ سنين، لذا عوضًا عن قتله اقتنعت أخيرًا أن أعطيه بصيرةً ترتّب أولوياته وتعيده إلى أطفاله.
مؤمن
آخر صوت سمعه مؤمن راعي البقالة هو الصوت العنيف لانغلاق باب ثلاجة البيبسي. امتعض من سقوط الشريط البلاستيكي على الأرض، بابٌ محكم الإغلاق يعني مشروبات باردة، وبابٌ غير محكم الإغلاق يعني ذهاب زبائنه إلى بقالة علي المجنون.
قُطع حبل أفكاره عندما رأى سالم يحدجه فجأةً ثم يشيح عنه. لم يعرف أنه سيرتكب جريمة وقتها، ولكنه شع ريبةً. لا يحب سالم كثيرًا، يفضّل أخوته عليه. رغم أنه الوحيد الذي لا يتسلف، ولا ينعته بألفاظٍ نابية. إلا أنه أيضًا الوحيد الذي لا يسلّم ولا يتحدث.
سالم أكثرهم غموضًا منذ صغره، وخصوصًا بعد موت أبيه.
لا يعرف مؤمن، ولا أي أحد أحدٌ سبب ما حدث. لدى سالم وظيفة ثابتة، وأهله على قيد الحياة، وحالته المادية متوسطة. صحيح أنه انطوائي ومنذ موت أبيه اقتضى كلامه على ردودٍ مقتضبة أحيانًا كانت همهمة أو إيماءة، ولكن سوى قسط السيارة الذي يأخذ ثلث راتبه، كان حرًا وسليمًا تمامًا.
لن يعرف مؤمن لماذا أعماه، أو حتى لماذا لم يقتله؟
اعتاد الحركة المستمرة داخل بقالته، لهذا عندما وضع سالم علبة الكولا على الطاولة وأخذها مسرعًا، استطاع تمييز الفعل المشبوه، ما لم يدركه هو احتمالية تفسيره الخاطئ للأحداث.
بعد تمهل وانتظار عودة الفتى من نفسه، طارد مؤمن الشاب الغريب الذي لم يرتح له يومًا، ظانًا بأنه أخيرًا أظهر دم أخوته الثقيل، ربما اعتاده سالم بعد كل تلك السنوات. فلتت منه شتيمةٌ حينما تذكّر أن الثلاثة ريال ونصف المسروقة ستخل ميزانية الدكّان المتخلخلة.
ذكرته السرقة الطفولية بأبنائه الذين لم يعودوا صغارًا. لا بد مما لا بد منه، وسفره لكسب لقمة عيشهم عملٌ نبيلٌ ليس منه بد. لم يؤلمه سوى أن أصغر أبنائه فضّل عمه عليه حينما فاجأه متوقعًا أن يقفز إلى حضن أبيه.
كان ذلك قبل سبع سنوات.
يجب أن يراهم قريبًا.
لن يراهم مطلقًا.
منذ طفولته، لم يكن مؤمن يفرّق بين شماله ويمينه، لذا حينما قال له دماغه أن الفتى ذهب ناحية الشمال تلقائيًا تحرّك ناحية اليمين. هل أنقذ نفسه أم أهلكها؟ لو استقبل ضربة سالم بوجهه قد يصدها، أو قد يتوتر سالم وتكون الجريمة قتل.
لم يمت مؤمن، ولكن سالم أعماه للأبد.
سقط مؤمن على وجهه، ولم يتحول كل شيءٍ إلى اللون الأسود. فالعمى ليس سوادًا يخيّم على المكان فجأة. بل العمى أشبه بالنظر من الكوع أو نقطة ما في الرقبة. ما رآه كان لا شيء.
كيف يوصف اللاشيء؟
لا يوصف ولا يتخيل.