
قبل أن يستطيعوا التحقق من هوية رائد الفضاء، انطلق خالد في السفينة البنفسجية إلى المريخ. التكهن بسبب احتلاله للمكوك الصغير صعب، فقبل هذه الليلة لم يكن الرجل أكثر جنونًا من الفرد العادي، بالإضافة إلى كونه فنان متوسط المستوى. كان من الأشخاص الذين حققوا معرفةً متوسطة في المجال الفني، أما اليوم فسيصبح ظاهرةً على مستوى السعودية.
«معك مسؤول الملاحة، أرجع، قيادة المركبة صعبة عليك، حتى لو تملك خبرة» قال الرجل البدين الجالس خلف مكتبٍ مليء بالأزرار والأضواء، ثم احتضن يده برأسه ودارت داخله عشرات الأفكار معظمها تتعلق بمحاسبته على إهماله، على إفساد أهم إنجاز وطني لبلده. شعر بدرجة حرارة جسده ترتفع، فك الأسورة الحديدية من رسغه ورماها فتعلقت على عمودٍ صغير ناتئ من لوحة التحكم.
تمنّى لو استطاع فك نفسه من المشكلة مثل الأسورة.
وبينما يشق الصاروخ طريقه إلى خارج الكوكب الأزرق، خفتت النار الحمراء والبرتقالية حتى انطفأت بالتزامن مع تحوّل عالم خالد من سماءٍ وسحب، أزرقٍ وأبيض، إلى سوادٍ حالك. تنفّست رئته دون انتظام وابتلعت بصيرته.
«ياخي أيش قاعد تسوي؟!» في بحثه عن أي سببٍ يفسّر فعلة الرجل الغريبة، أصبح صوت مسؤول الملاحة أقرب إلى التضرّع.
أما خالد، فحدّث نفسه بأن موعد الرد لم يحن.
وقف الرجل الذي لم يسبق له صعود مركبةٍ طائرة لأبعد من رحلة داخلية، والآن هو في رحلة أخرى لا تحتاج إلى جواز سفر.
ندم على شدة ضربته لرائد الفضاء، كان بإمكانه إرشاده لو أبقاه تحت التهديد.
شعر بجسده يرغب بالطفو، وعندما فك الحزام عامَ جسده إلى سقف السفينة كأنما دُفِع بيدٍ خفية إلى الأعلى، وجد عمودًا رماديًا ناتئ من الكرسي، فتمسّك به بكل جهده. دار جسده بينما يده الواهنة تشتد حول المعدن.
رنّت السفينة بصوتٍ خافت وظهرت أمام خالد كتابة بخطٍ أخضر باهت: جاري فتح الأضواء.
أضاء المكوك وعادت الحياة إلى الأثاث بفضل الأضواء المشعة ورأى خالد منظرًا سر عينه. أريكة بنفسجية طويلة، وسجّاد بلون الكريمة وجدران خضراء فاقعة. تذكّر قبعته الحمراء، كانت تحلّق على بعد أمتارٍ قليلة منه. لم يجرؤ على ترك العمود ليلحقها.
تذكّر تجمعات مجموعة «التناتيش» الاسم الذي اخترعوه ملاطفةً ومشاكسة لمجموعة كتّابٍ قدامى أطلقوا على أنفسهم اسمًا مشابهًا. كانت للمجموعة ممنوعات بسيطة: الأعضاء الجدد، والنساء، والحديث عن الذات. استطاعوا اتباع قاعدتين من الثلاثة.
كما عُرِفت المجموعة بالتنافس الشديد في اللبس. حتى من التزم بالزي السعودي كان يختار بعناية الأقمشةً والأشمغة والجوارب، دون الحاجة لذكر فترة الشتاء التي تعني ألوان وأنواع مختلفة من السترات.
حتى مع تقدّم عمرهم كانت الأناقة ضرورة.
من النافذة الصغيرة بجانبه ظهر الفضاء بنجمه وقمره. غمره سوادٌ لا نهائي. يمتد ويمتد كأنه الموت. بدا السواد حتميًا ومغريًا. لم يكن ينظر إليه، بل كان السواد غامرًا كأنما يسحبه إليه. رغم خبرته الضئيلة في الفضاء عرف أنه وحده هنا، أنه أقل من فكرة تخطر في بال هذا الوحش الكوني غير المبالي.
لو اخترقت أبرة أي من العوازل السخيفة..
أعاد تركيزه إلى السفينة الأنيقة التي بدت مكانًا مناسبًا لاستضافة جلسة من جلسات التناتيش. كما شعر أخيرًا بأن مشاعره أصبحت منطقية.
“خالد تسمعني؟”
طبعًا يسمعه، طبعًا لم يستمع إليه. لن تجد وقتًا لإنسان في الفضاء.
بدأ يعتاد وجوده في رحاب الفضاء. خفّت الرهبة بهدوء وشغلت مؤخرة رأسه تاركةً مساحة المقدمة للتأمل. أصبحت رؤيته أوضح. اقترب نفسه من الانتظام، وهدأت سرعة أفكاره. صارت مجموعة التناتيش واضحة أمامه الآن. كلهم. أصدقاء الرحلة. الفنانون الذين أرادوا أن يُخلّدوا في التاريخ. كلهم ماتوا ونُسيوا. لم يُخلّد واحدٌ منهم. حتى سلامة أكثرهم نجاحًا، سرعان ما نُسيت أغانيه التجارية التي لاقت رواجًا ساحقًا وقتها.
أما حمد الكاتب، فموته كان القشة التي قصمت ظهره.
كلهم أمواتٌ منسيون الآن. وهو جزءٌ من مجموعتهم.
«بالفن نُخلّد» شعار المجموعة اللفظي، كان الأمر الآخر الذي يتنافسون من أجله، كلٌ منهم يريد أن يثبت بفنه في ذاكرة الناس. كان تنافس الفن أكثر شراسةً من تنافس الموضة، إلا أنه أقل نجاحًا.
لم ينفعهم فنهم. قُذفوا إلى خارج الحياة، وسار الناس دونهم. لم ينفعهم فنهم. لم يخلدوا حتى في أفكار أهلهم، في أفضل حالاتهم أصبحوا ماضٍ. قد يخطر أحدهم في الذهن مرةً من فترةٍ لأخرى. وربما لن يخطر إطلاقًا. في اليوم الأول من عزاء حمد كان الناس يضحكون بأعلى صوتهم. اليوم الأول!
وسط سكون الفضاء كان عقله يصرخ بأعلى صوته.
بسط خالد يده المتغضنة بهدوءٍ حتى أصبح يحلّق في الهواء. غسلت صدره موجةٌ لزجة دافئة، كيف ستكون ردة فعل خالد الطفل لو أدرك أنه سيطير ولو بعد حين؟
سبَح إلى قبعته التي تعلّقت في عمودٍ كُتِب فوقه خروج طارئ.
توقّف لحظة ليفكّر: هل يستطيع فك خوذته الآن؟
تذكّر قصة فضاء كتبها حمد رحمه الله: فك رائد الفضاء قبعته بعد أن استقرت المركبة. إلا أن حمد كان معروفًا بين أصدقائه، وقرّائه الأقل من مئتين قارئ، بعدم إيمانه بضرورة التزام القصص بمنطق العالم الواقعي، لذا لم يتأكد من إمكانية فك الخوذة.
«لو سمحت؟» تلألأت عينا مسؤول التحكّم وتسمّرت في الشاشة المربعة الصغيرة على طاولته الخشبية. أسكت الضوضاء خلفه ورد.
«خالد؟ أسمعك!»
«عادي افتح الخوذة؟» سأل بصوتٍ مرتعش.
«أيه عادي. خالد ليـ…»
أغلق مكبّر الصوت. عاد يجلس وحيدًا في صندوقٍ معدني صغير يسبح في فضاءٍ لا يمكن قياس مساحته. نقطة بنفسجية في ملكوتٍ لا يعرف عنه الإنسان سوى أنه أضعف من أن ينجو فيه، وأن روحه صاعدة إليه قريبًا. لم يضق صدر خالد بهذه الحقيقة، بل للمرة الأولى شعر بالتحرر من افتراضات يستحيل التحقق من صحتها.
عندما يحدّق فيك الموت، تتوقف عن التفكير فيه.
أولما بدأت أرواح أصدقائه تحلّق إلى خارج الأرض لم يشعر سوى بحزنٍ معقول. إلا أن الأجساد استمرت بالسقوط والأرواح صعدت دون هوادة. وسرعان ما أدرك أن التجاعيد لا تتوقف عن الظهور سواءً تجاهلتها أو لا.
اعتمر قبعته الحمراء وعاد وسيمًا كما يليق بتنتوشي. نظر إلى نفسه في انعكاس الزجاج.
كائنٌ أنيق يحلق في قبعةٍ حمراء، حذاءٌ أحمر، قميصٌ أبيض عليه دبوّس بطة صفراء، سروالٌ أزرق بلون المحيط وسترةٌ بنية فاتحة. كُتِب على قبعته الحمراء «Undiagnosed, but I’m pretty sure». ابتسم. رغم كل ما يدور داخله عُرِف بخفة دمه. مهرج التناتيش.
سرعان ما استحلت الفكرة عقله، وأصبحت الشيء الوحيد الذي يستطيع التفكير فيه. ماذا سيحدث. الموت قادم. الكل ينسى. الحياة ليست سوى لحظة تمّر باستمرار. كل شيءٍ في الماضي. لا وجود للآن. وعندما يفنى الجسد سيُنسى.
«لو سمحت…» مرت أكثر من ثماني ساعات شعر بها أهل الأرض التي أصبحت مليئة بأخبار خالد. بقي مسؤول الملاحة دون أن يوجه له أحد كلمة. شعر أن التشبث بالكرسي أمام لوحة التحكم، قريبًا من هفوته، أنسب طريقة للحفاظ على عقله. معظم أفكاره دارت حول الاحتمالية الحقيقية لمحاسبته والمسؤولين عن هذه الفضيحة.
وللحظة خطر بباله الرجل الذي يطفو في الفضاء وحده بينما جنسه يبعد عنه مسافةً تحسب بمقياسٍ كوني. لو يدري أن الأرض كلها تسأل عنه. تجاوز الخبر السعودية وأصبح في العالم كله.
الكل يتكلم عن خالد، وأنا الوحيد الذي يهتم كفاية ليتكلم معه. فكّر الرجل معتزًا بإنسانيته بعدما وجد أخيرًا تبريرًا أعجبه لبقائه في المكتب حتى هذه الساعة.
«خالد؟! لا تقفل المكالمة أرجوك»
«ما راح أقفل» همس بلطفٍ أقرب إلى التضرّع.
«ليه…» عجز المسؤول عن إكمال جملته. عدد الأسئلة ربط لسانه.
«يتكلمون عنّي؟»
«الكل»
«تتوقع أحد بيشتري أعمالي؟»
«كل أعمالك خلّصت»
ابتسم.
«تتوقع يتذكروني بعد ما أموت؟»
كشف الخوف عمر خالد، امتلأ صوته بتلك الرجفة العنيفة والواهنة التي تأتي بعدما تبدأ المسامير بالتفكك قبل انهيار الجسد.
«يا عم خالد. أحتاجك تروح للوحة التحكّم، راح تجد زر أحمر، أضغط عليه. هذا الطيار الآلـ…»
«بحكيك قصة: كان فيه شخص صغير في العمر. ما يتجاوز الخمسة أو ستة سنوات. طول عمره يفكّر أنه راح يطير في يوم من الأيام…»
«يا عم خالد!»
«عدت السنوات، نسي الولد حلمه…» سكت العجوز محاولًا محاكاة طريقة حمد في رواية القصة. «عاش وتعلّم وحقق أشياء ثانية في حياته، أشياء جيدة، أشياء حسسته بالرضا وتحقيق الذات، فعلًا حققها. لحظيًا حققها. تعرّف على ناس مثله، ناس رهيبين وعندهم شغف حقيقي بمهاراتهم ويبغوا يتركون بصمة حقيقية في الحياة…»
«الكل يعرف فنّك يا عم خالد، ويقدّره…» حاول المسؤول أن يجاريه بعدما خمّن إتجاه القصة، رد العجوز بصراخ:
«راح أقفل الميكروفون! اسكت واسمعني لو سمحت»
بحركةٍ غريزية ارتدى الرجل سوارته السماوية واحتضن رأسه مجددًا.
«ومثل اللوحات، قِدموا.. ونُسيوا.. وجات لوح أجمل وألطف، وأفهم هذا كله…» سكت حتى لا يبكي ثم خطر بباله أنه يريد رؤية دموعه تحلّق في الفضاء فأكمل. «بس ما أظن الذعر من الموت رد فعل غير منطقي من مخلوقات تعيش مرة وحدة، ولا؟»
«صادق» لم يجامله هذه المرة.
رد بارتعاشً عنيف «أنا راح أموت في هذا المكان، ما راح أُدفن في قبر، ولا راح يضحك أحد في عزاي، كلكم راح تشاهدون في صمت. كلكم راح تعيشون نفس حُرمة الموت اللي بعيشها» ابتسم العجوز، وأغلق مكبّر الصوت.
وضع قدمه فوق سطحٍ خلفه، ودفع جسده إلى المرآة القريبة بينما يثبت قبعته مكانها.
سوادٌ حالك، نقطةٌ بنفسجية، بداخلها نقطةٌ أصغر، حمراء وبيضاء وزرقاء وبنية فاتحة كُتِب عليها عبارة ساخرة مضحكة وشكل لحيوان لطيف، نقطة جلدها متغضنٌ ورأسها مليء بأفكار تغمر النقطة السوداء الحالكة. نقطةٌ على وشك العبور إلى شكلٍ آخر من الحياة. عبور غير ممكن دون أن يموت الشكل القديم.
لا بأس، هذا الموت لن يكون وحيدًا.
هذا الموت ستشعر به مخلوقات الأرض كلها.
سيُسطّر في تاريخ البشرية جمعاء. هل كان عليه دفع ثمنًا باهظًا إلى هذا الحد كي لا يُنسى؟ لماذا فشل فنه في تعويض رغبته بالخلود؟ لماذا كان إحساس الاكتفاء مؤقت دائمًا؟
رغم هذا، ما زال الموت يبعد فترةً لا بأس بها. فترةً كافية لتسلل الشك إلى عقله.
فكّر: هل سيحاول البشر في حركةٍ يائسة ومخجلة أن ينقذوه؟ تخيّل طاقمًا يُجمع لأول مرة في التاريخ. دولٌ كثيرة تشكل اتحادًا يجمع أهل الأرض. يواجهون مصاعبًا كثيرة مثل الميزانية، والاتفاق، ومن سيقود الحملة، ولكنهم بطريقة خارقةٍ يتجاوزون المخاطر في آخر لحظة لتنطلق الرحلة الأسطورية لإنقاذه. تنجح الرحلة ويخفت اسمه أكثر وأكثر، حتى تُصبح الذكرى هي ذكرى “رحلة النجوم” كما تخيّل أن يُطلق على عملية إنقاذه.
كان مخطئًا، لن ينقذه أحد، سيموت وحيدًا في الفضاء.
عجبتك القصة؟
اشترك في المدونة حتى لا تفوتك قصصٌ مثلها