تدوينة

قراءات يونيو: فوضى خلّاقة

وضعت ثلاث علامات تعجب في أقل من مئة كلمة، وأنا أكره علامات التعجب، يمكن هذا يوضح قليلًا من الانطباع الذي تركته علي الرواية.

 

في محاولة للأرشفة والمشاركة والنقاش -وبخط صغير الالتزام- سأكتب مراجعةً بسيطة لقراءاتي الشهرية في الأسبوع الأول من بداية كل شهر، وها نحن ذا في الأسبوع الأول من يوليو، يلّا نشوف ماذا قرأ محمد في يونيو.

قبل ما نبدأ، وحتى لا أمل أو تلومونني، لن أضع أي قوانين للمراجعات، قد أحرق رواية ثم لا أمسّ أحداث أخرى، وقد أذكر سمة رواية وأتجنب سمة أخرى، لن أركز على القواعد لكنّي سأنقل لكم مشاعري وآرائي حول ما قرأت، وحسب علاقتي بالكتاب تأتي المراجعة.

وأنا متأكد أن هويةً ما ستتشكل لهذه الفقرة مع مرور الوقت، فتحملوني أعانكم الله.

 

العطر: قصة قاتل

 

كانت بداية شهري عاصفة.

في هذه الرواية الغريبة العجيبة يولد بطلنا صاحب رائحة الشم الأسطورية جان باتيست غرونوي تحت طاولةٍ تقع بقلب أعفن منقطة وسط أعفن مدينة في أعفن زمنٍ لأعفن دولة، حسب وصف الراوي الذي يصرخ في وجهك من المشهد الأول: نظّف أنفك، ورائنا رحلة مليانة روائح!

أكثر شيء جذبني في بطلنا صاحب الأنف الأسطوري آليته في التصرف، غرونوي ما كان شخص حاقد أو غاضب، على الأقل في البداية، هو كان مجرد شخص يتبع غرائزه ويتصرف بطبيعية (طبيعته هو، ولو كانت طبيعة شاذة اجرامية) فبعدما قتل فتاة لأنها كانت ببساطة تحمل أزكى رائحة في الشارع جلس حولها يتشممها حتى تلاشت الرائحة ثم تركها في مكانه وعاد بيته ليكمل عمله كصانع عطور!

وضعت ثلاث علامات تعجب في أقل من مئة كلمة، وأنا أكره علامات التعجب، يمكن هذا يوضح قليلًا من الانطباع الذي تركته علي الرواية.

النهاية أيضًا كانت صادمة بسبب ذاك المشهد العجيب اللي لا ينبغي علي ذكره، لكنه باختصار مشهد يسيطر فيه غرونوي على قلوب الناس الذين جاؤوا ليشهدوا إعدامه بعطر خارق صنعه، وهو مشهد مقشعر وعجيب.

ومع أن الرواية فيها خيال، إلا أنك ما تشعر فيه أبدًا، لأنه مزحوم بواقعية ومستخدم بترشيد وبذكاء شديدين. أيضًا الراوي أبدع في طريقة كتابة الشخصيات والمشاهد؛ كل مشهد يأخذ حقه وكل شخصية مبنية بدقة لدرجة أنك تراهم أمامك في جميع الأوقات.

هذه ثاني أفضل رواية قرأتها هذا الشهر، وسبب حلولها في المركز الثاني هو مشاهد طلوع غرونوي للجبل اللي كانت الأكثر رتابةً بالنسبة لي، رغم إنها عطتنا معلومة مهمة وهي أن بطلنا غرونوي صاحب الأنف الأسطوري عديم الرائحة -مفارقة عجيبة- إلا أني حسيت إن تقديمها بذاك التمطيط كان من نافلة الأحداث.

على فكرة، في منها فيلم جيد بنفس الاسم، أنصحكم تشوفونه بعد قراءة الرواية.

 

قبل أن تبرد القهوة

 

اشتريت روايتي العطر والغريب مع بعض، لكني شعرت أنهم أثقل من أن يقرآ بالتتالي، عشان كذا احتجت لرواية بينية، وكانت هذه الرواية اليابانية مثالية لهذا الغرض.

رواية عن مقهى يساعدك على الانتقال بالزمن، لكن بشروط معقدة مثل: لازم تجلس على كرسي من كراسي المقهى لنتنقل بالزمن، وتلازم الكرسي طول فترة الانتقال، ومهما فعلت عند انتقالك فالحاضر لا يتأثر بالانتقال بالزمن أبدًا، وعندما تنتقل لن ترى غير الأشخاص الذين دخلوا إلى هذا المقهى، وطريقة الانتقال هي عبر ارتشاف فنجان قهوة يقدمه لك النادل، ولازم تعود إلى الزمن الحالي قبل أن تبرد القهوة (هههاي عشان كذا حط العنوان).

تقرأ كل هذه الشروط، وهي ليست كل الشروط على فكرة، وتصرخ وأنت ممسكٌ رأسك:

أجل أيش فائدة الانتقال بالزمن؟

لكن الكاتب الذكي، يستخدم الانتقال للزمن ليصلح أشياء صغيرة مكسورة في شخصياته بدل تغيير العالم، وهذا شيء أعطى الرواية بُعد لطيف وحنون جدًا. فتشوف أخت ترجع فقط عشان تسلّم على أختها اللي توفت في حادث وهي مخاصمتها، وبنت ترجع من المستقبل عشان -بذكاء شديد- تأخذ صورة مع أمها اللي توفت وهي تولدها.

معروف عن اليابانيين خيالهم الخصب، وهذه الرواية مثال رهيب. حميمية ولطيفة وحزينة شوية.

 

الغريب

 

روايتي المفضلة هذا الشهر!

من السطر الافتتاحي تعرف أنك على وشك قراءة عمل مختلف، عمل غريب 🙂

تتحدث الرواية عن ميرسولت الرجل اللامبالي، قبل أن تكون اللامبالاة موضة في تغريدات تويتر.

تبدأ الرواية بتسائله عن موعد وفاة أمه، فهو لا يتذكر أماتت أمس أم اليوم؟ ويبرر بأن الرسالة البريدية التي حملت له الخبر لم توضح التاريخ، وكأن هذا هو أكبر الهموم حاليًا!

وعبقرية هذه الرواية بالنسبة لي أن من السطرين الأولى نعرف كل شيء عن بطلنا، فهذا “العبط” يستمر معه حتى يُعدَم في آخر الرواية، أو قبل أن يعدم بقليل حينما يوضح في أسطرٍ مقشعرة عن فشله بإيجاد معنىً في الحياة.

فميرسولت “يشعر بالنعاس” في جنازة أمه فينام. ولا يشعر بأن الأمر “يفرق” إن تزوج حبيبته أو لا. ولا يهتم لطلب صداقة رجل، رغم أنه شهد زورًا لصالحه فقط لأنه “طلب منه”، وعدم اهتمامه هنا ليس معناه أنه لا يريد صداقة الرجل بل هو حرفيًا لا يرَ الفرق بين صداقته وعدمها.

وحين يقف في المحكمة بسبب جريمة قتل اقترفها يرفض الدفاع عن نفسه أو الادعاء بأنه يحس بالذنب، قبل ما تسأل ليه رفض يعترف بإحساسه بالذنب، بعد ما قلته عن الشخصية ماذا تتوقع السبب؟

بالضبط، لأنه “لم يحس بالذنب” حتى وإن كان هذا معناه أنه سيُعدَم.

من قواعد الكتابة أن تختار الشخص الأكثر إثارةً للاهتمام ليكون بطل روايتك لا الشخص الخيّر، ولا أكاد أتذكر شخصية أكثر إثارةً للاهتمام من هذا الميرسولت.

حد أني بدأت أشفق عليه، واشتططت غضبًا وأنا في الطائرة اقرأ الكلمات التي اختارها “ليدافع” عن نفسه أمام اتهام المحكمة بأنه شيطان لعدم اهتمامه بوفاة أمه، حيث قال: كلنا تمنينا أن يموت عزيزٌ علينا من فترةٍ لأخرى!

 

سيكولوجية الجماهير

 

شهريًا اقرأ عدة روايات وكتاب غير قصصي واحد.

هذا الشهر وقع الاختيار على كتاب سيكولوجية الجماهير. كان الكتاب صعب القراءة، ليس لتعقيد أفكاره لكن اللغة وتراكيب الجمل أزعجتني جدًا. لا أعرف هل المشكلة في الترجمة أم عمر الكتاب أم أني لا أفهم كلام الكبار. الجمل كانت طويلة تمتد وتمتد حتى يهنّق مخي. لدرجة أني تجاوزت العديد من صفحاته.

عجبتني في الكتاب عدة نقاط:

  • تحوّل الأفكار: يدّعي الكاتب أن الجماعات لا يتغير فكرها فجأة، فنهوض ناس مثل هتلر وغيره لم يكن فجائيًا أو حالة متطرفة بل هو نتيجة تراكم وعواطف ولو بعض الجماهير من حوله.
  • خلطة إقناع الحشود: التوكيد، التكرار، العدوى. والمقصود بالعدوى هو أن أفكار جماعة إن كانت قويةً كفاية تعدي الجماعات الأخرى.
  • خيال الجماعات: الجماعات تملك خيالًا خصبًا، وإن سمعت جماعة حادثةً فيها مجالٌ للتخيل ستؤثر عليها أشد التأثير. فكما حدث مؤخرًا مع حادثة غرق غواصة التايتينك وما حدث مع السفينة قبلها. لهذا من الصعب أن يؤثر على الجماعات خبرٌ لا يستفز الخيال كانفجار في دولةٍ بعيدة ولو قتل آلاف الناس.

 

نادي الانتحار

 

خاتمة الشهر كانت خفيفة وجيدة.

شدّني عنوان الكتاب جدًا، وعنوانه السابق الليالي العربية الجديدة ليس سيئًا أيضًا، فاقتنيته. الكتاب عبارة عن ثلاث قصص قصيرة متتابعة عن نفس الشخصيات ورغم هذا ليس رواية قصيرة، ليه؟

لأن كل قصة مكتوبة بطريقة تجعلها تستطيع الاكتفاء بذاتها، الكتاب مكتوب مثل مسلسل لا يعرف كاتبه إن كان سيُجدد لموسم جديد أم لا فتجده مفتوح-مغلق. تُقفل كل قصة عند نهايتها مع إمكانية بدء قصة أخرى.

والكاتب فعلًا كتبها كقصص قصيرة منفصلة متتابعة، ثم أُعيد تجميعها ونشرها في كتابٍ واحد.

يتحدث الكتاب عن أمير بوهيميا وصديقه المقرب الذان سئما الحياة الرتيبة في القصر فنزلا ليسبرا أغوار المدينة المظلمة والمليئة بالعجائب والشخصيات الفريدة.

يقودهم هذا البحث عن المغامرة إلى نادي الانتحار وهو نادٍ يلعب فيه الأعضاء لعبة ورق تنتهي بتحديد قاتلٍ ومقتول كل ليلة، ومن هنا تنطلق قصتنا المشوقة.

الكتاب قصير وممتع لدرجة أن إنهاءه في جلسة واحدة ليس فكرةً بعيدةً إطلاقًا، ما شعرت بالملل أبدًا لكني شعرت بقليل من الضبابية مع الشخصيات فالكاتب لا يصف كثيرًا بل ينقلنا من مشهد إلى ثانٍ وثالث باستعجالٍ محموم. وترتني طريقة الكتابة هذه لأنها تشبه طريقة كتابتي نوعًا ما فهل هذا معناه أن قصصي ضبابية 🙁

الكتاب متأثر كثيرًا بألف ليلة وليلة، مع هذا له هوية متفردة كأنه فشل في تقليد ألف ليلة وليلة فخرج بعملٍ أصيل. كتاب جميل وخير خاتمة للشهر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى