أنت حدد

البوصلة تشير شمالًا

ترَك الورقة فوق الطاولة، مسَح عينيه، شعَر بانقباضٍ سريع كأن قلبه توقف للحظة، ثم أكمل بقية يومه متحمسًا لمستقبلٍ يحاول فيه من جديد.

“إلى:

 

اكتب لك رسالة وداعي بعدما ضللت طريقي، وأبشرك أني ضحيت بنفسي.

حتى تستوعب السياق ضروري تعرف الحال. غريب أني أشرح لك حالتي، أنت بالذات، كنت أحسبك مدركًا حتى فاجأني عماك الاختياري مؤخرًا.

 

قبل سنوات عندما ودّعت حياة تتلخّص في دروسٍ أحضرها وأفكارٍ أُلقنها، اتخذت قرارًا متطرفًا. 

كان قراري شديد التطرّف إلى حد أنه استفز كل من حولي. الخائف علي حذرني من تضييع نفسي ومستقبلي، والمتحسّر على تضييع نفسه ومستقبله سخر منّي.

كان قراري جريئًا؛ فلا يمشي في دربٍ غير مطروق إلا شجاع، ولكن كانت قناعتي وما تزال، أن أي شخصٍ يمشي في دربٍ فقط لأنه مطروق مجنون.

 

حتى أقرّب لك الصورة، وأنزع عنك عماك الاختياري، دعني أضرب لك مثلًا (على فكرة، هل تتذكر ذاك الوقت الذي كنت تتأمل فيه الأمثال، والتشبيهات، وكل تلك الأشياء التي تحييك ولم تعد تجد لها وقتًا؟)

 كنتُ مثل بطة رأت نفسها مختلفة عن باقي البط. قررت أن اتباع من سبقها لا يناسبها. بينما ألحّ البقية أنها بطة، وأنها يجب أن تبط مثل ما بطّ من قبلها. أما هي فأصرت على أنها بطة مختلفة. حذرها من حولها؛ إن ركبت دماغها بدل تيار الماء ستقود نفسها إلى الدمار. 

لكن هذه التحذيرات أكدت لها أنها تمشي في دربٍ صحيح. فحتى الموت بدا خيارًا مقبولًا في حال كان آخر ذلك دربها هي.

 

أظنك لم تجد في تشبيه البطة ظرافة، وهذه مشكلتنا الكبرى، نحن فقدنا إحساسنا بالظرافة؛ سمتنا الأبرز في يوم من الأيام.

 

ما فهمت؟

لا بأس ستفهم بنهاية الرسالة.

 

لم يكن القرار سهلًا رغم ثقتي الظاهرة، فداخلي كان يرتعش. والمستقبل المجهول أبقاني عن النوم ساعات عديدة. كأن النوم ليس إلا أداة تسريعٍ للوقت ستأخذني إلى الغد بسرعة أكبر.

رغم هذا ما ازددت إلا إيمانًا بقراري، بل في لحظاتٍ تقطّر جنونًا كما يقطّر الماء من لحية والدي، كان المجهول يحييني بحماسٍ وتوترٍ لن يفهمهما إلا من لُعِن ورُزِق بطموحٍ يجبره إلى السعي في أمورٍ لا ترى إلا في خياله.   

سرتُ في دربي، مختالاً بأن شجاعة قراري هي كل ما احتاجه. أصبحت خطواتي أوسع، واختفى قطيع البط من خلفي. ورويدًا رويدا اكتشفت أن حتى دربي يمتلاً مغريات منغصات مثل بقية الدروب.

اكتشفت أن الوجهة مهما سمت فهي حبيسة قدرة صاحبها على وضعها نصب عينيه طوال الوقت. 

 

بل أنا، البطة التي سلكت دربها الخاص، وجدت في طريقي مغرياتٍ تتجاوز بقية البحار. فمن يسبح شمالًا ليس بقلق من سبحوا مع التيار.

وكرحلة بطلٍ مشوهة، خضت مغامرتي في العالم المجهول، وعدت مثبتًا للجميع أني “قد اختياري”. 

إذن، وين المشكلة، وليه الدراما؟

 

المشكلة أني وجدت في منتصف الطريق محطةً لامعة كل من يراها من بعيد سيخلط بينها وبين وجهتي النهائية، وسيرى فيها إنجازًا عظيمًا يظنه ما أردت أن أحققه، ولكن أنا من بين كل الناس أعرف أن وجهتي سراب، وإنجازي ليس إلا وسادةً من قطن بداخلها أشواك. 

 

إلا أني استسلمت للإغواء.

وهكذا، 

فقدت مهارتي،

فقدت فكاهتي،

فقدتني،

 

هادئٌ هو الفقد.. ومريحةٌ هي الخسارة، خصوصًا عندما تكون مخفية عن الجميع. تستشعرها وحدك بينما يصفق الجميع لفوزٍ تتوهمه أعينهم. 

مختالٌ بدربي، معميٌ عن وجهتي، بهذا الشكل جنحت إلى الهدوء واسترحت للأبد فوق المحطة اللامعة وسط تصفيق كل من حاولوا ثنيي عن قراري قبل عدة سنوات، عرفت وحدي أني لم أصل إلا لوجهةٍ تشبه الوجهة التي أرادوها لي أصلًا.

 

لكن لا تخلط الأمور.. هذه ليست رسالة استعطاف أو طلب رحمة.

فأنا أنت، ومثلما عاش قارئٌ أو إثنين حيواتً مختلفة عبر عين عقلك، سأعيش أنا من خلالك وسأبقى جزءًا صغيرًا مات حتى يفسد رائحة المكان المخادع الذي يبدو كوجهتك وهو ليس بوجهتك.

كل ما أطلبه منك هو أن تستفيد من هذا الدرس الذي لم يكلّفك شيء.. كل الذي كلفك، هو أنا. 

 

مِن: 

مَن كان أقرب إليك من قميصك الملطّخ ببقع الكاتشب وجورب “ما يخالف” الأصفر،

ترفّق يا صاحبي.”

 

ترَك الورقة فوق الطاولة، مسَح عينيه، شعَر بانقباضٍ سريع كأن قلبه توقف للحظة، ثم أكمل بقية يومه متحمسًا لمستقبلٍ يحاول فيه من جديد.

عجبتك القصة؟ 

اشترك في المدونة حتى لا تفوتك قصصٌ مثلها

‫2 تعليقات

  1. فقرتي المفضلة:
    “رغم هذا ما ازددت إلا إيمانًا بقراري، بل في لحظاتٍ تقطّر جنونًا كما يقطّر الماء من لحية والدي، كان المجهول يحييني بحماسٍ وتوترٍ لن يفهمهما إلا من لُعِن ورُزِق بطموحٍ يجبره إلى السعي في أمورٍ لا ترى إلا في خياله. ”

    دام قلمك، محمد.

  2. مَن كان أقرب إليك من قميصك الملطّخ ببقع الكاتشب وجورب “ما يخالف” الأصفر*
    I felt personally attacked by this!
    جميلة جدًا جدًا، استمر ونحنُ معاك بالشراب الأصفر ✨🫶🏼

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
×