قصة

صديقي المخرج

أحاول أركز معه، لكنه يردد نفس الجملة وشفايفه مقطعة من النشفان!

بعد انتهاء أمسية في مقهى محلي لعرض فلم مستقل عن أهمية حماية القطط من العنف -موضوع غريب، لكن النية حسنة- لقطت أذني حديث عن كتابة الأفلام من الشخصين الجالسين أمامي، فدخلت وسطهم بحكم انتهائي للتو من كتابة فلم مع أحد أصدقاء الجامعة.

بعد ساعة ونصف من الأحاديث الممتعة، انتقلت والرجلين -فهد وعبد العزيز- إلى الغرفة الخارجية الأكبر، يجلسان مقابلي، تفصل بيننا طاولة بيضاء دائرية والإثنين يواجهان بعضهما رغم أن موضع جلوسهما ليس طبيعيًا، أظن الرسالة واضحة.

عبد العزيز مخرج وله معارف كثر، من ذاك النوع اللي يعطيك فكرة أنه وصل لآخر طريق المعرفة ثم عاد ليباركنا بعلمه. عملاق، جسده مفرود كالعجين وتزين وجهه المربع لحية خفيفة وعبوس مستمر. حديثه عبارة عن جمل غير مكتملة ولا يظهر اهتمامه بالجلسة إلا حين يكون المتحدث.

أما فهد فهو باختصار عبد العزيز مضروب في سالب واحد، قصير وملموم، قلق، يستمع كمن يبحث عن مصلحة بين الحروف. في البداية كان يتحدى عبد العزيز في لعبة “من عنده معارف أكثر؟” لكنه استسلم وتحولت عينه لقلوبٍ كبيرة منذ سمعه يقول:

أصدقائي المنتجين كُثر، بعضهم سعوديين، وبعضهم عرب، وبعضهم أميركيين.

أما عبد العزيز فلم يبدُ مهتمًا بمعارف فهد الذين كانوا عبارة عن مخرج من قناة يوتيوب، ومنتج من قناة فضائية شعرية ميتة، و”كاتب روايات شايب”.

كان عبد العزيز ينتظره يسكت ليأتي دوره في الكلام، طبعًا لا يكمل الحديث في موضوع فهد -أشك أنه يستمع له- بل يأتي بموضوع جديد، وفهد ينتقل لموضوعه الجديد دون اعتراض، وأنا صامت أراقبهم وأتفحص ملامحهم وأشكّلهم كشخصيات في قصة -أو مقالة- سأكتبها قريبًا. جلسة مجانين.

عشان كذا بدخل عالم الإنتاج أستاذ عبد العزيز، وما ننحرم من مساعدتك.

يقولها فهد ويتضاحك منتظرًا تأكيد عبد العزيز الذي يهزّ رأسه باحثًا عن مخرج في السقف أو إحدى الجدران مرددًا:

الله يعين.

نسكت، ينظرون للسقف وأنظر لهم ينظرون للسقف. يكمل عبد العزيز بنظرة فوقية -مجازيًا وحرفيًا، فعبد العزيز فارع الطول-:

مااش، لهذا السبب توقفت عن الإخراج!

يهز فهد رأسه مرددًا “أي والله”، مع العلم بأن عبد العزيز لم يخبرنا سبب توقفه عن الإخراج لكن هذا لم يمنع فهد من مباركة السبب والاتفاق معه.

تعرفون ليه وقفت إخراج؟

جاوب فهد بحماسة “ليه؟!” فأكمل عبد العزيز وهو يمسح نظارته كأنه كونان:

لمّا درست في أميركا فيلم ميكنج علمونا طريقة هوليوود في الإخراج، وحاولت أجيب هوليوود للسعودية لكن ما أحد يقدر المواهب فقررت أتوقف عن الإخراج لكن أقدر أرجع في أي وقت لو أحب.

سألت بلا حسن نية:

يمكن بناء ثقافتنا الخاصة بنا أحسن لنا من نقل ثقافة خارجية؟ عمومًا ظروفنا تختلف كثير عن ظروف هوليوود وبوليوود وموليوود.

أعطاني نظرة طابقها فهد، ما فهمت سبب غضبهم، ربت فهد على فخذ عبد العزيز وقال قبل أن أشرح لهم أن موليوود هي السينما المصرية:

 وأصدقائك المنتجين أستاذ عبد العزيز، ما رأيهم؟

ضحك عبد العزيز هازئًا:

المنتج ما همه، كل اللي يدوّر عليه الفلوس، لكن الكلام الحقيقي عند المخرجين، نحن نهتم بالجمهور وتطويره والرسالة اللي بنوصلها وحتـ…

ما رأيكم بفيلم شمس المعارف؟

كدت أموت من الملل، فقررت المقاطعة بهذا السؤال، وبعد النظرات المنزعجة جاوبني عبد العزيز:

زبالة.

أشار فهد بسبابته على عبد العزيز، أعتقد هذا هو المكافئ لـ (+1) في لغة الإشارة. أكمل عبد العزيز:

كأنه سكتش يوتيوب مطوّه لساعتين، ولا تفرجته في السينما حتى، تفرجته مسرّع في نتفلكس.

قال فهد:

عشان كذا بدخل عالم الإنتاج، فيه أفلام كثير تستاهل أكثر من هذا الفيلم ولا لقت محتضنين يا أستاذ عبد العزيز!

رد فهد قبل أن يكمل عبد العزيز، بنبرة الشخصية “الكول” التي أتى بها من “أميركا” وتحديدًا “الفيلم سكول” الواقع في “إل أي”:

ما فائدة العمل والشيّاب غازين المكان؟

قلت -وأنا أصغرهم، وأحمقهم-:

فعلًا، أنا كممثل للشباب ليه أتـ…

قاطعني عبد العزيز وعينيه موجهة لفهد دون النظر لي:

ماذا تعرف عن الإنتاج؟

رد فهد كموظف في مقابلة عمل، متلعثم ومتبوسم ويضحك بقلق بعد كل كلمة، لم أنتبه لما قال لأني كنت أنظر لخطٍ رفيع من الدماء انسل من شفته العلوية -المتيبسة فوق العادة- حتى خرجت من سرحاني عندما قال:

عشان كذا أرجع وأقولك بدخل عالم الإنتاج، الشباب (أشّر علي بإصبعه دون النظر لي) يحتاجون من يأخذ بيدهم ويصنع أفلامًا تخاطبهم!

يسند عبد العزيز ظهره على الكرسي ويضع ذراعيه على جانبيه، مفرود الجسد وكل ما ينقصه هو ريش ليري ألوانه البديعة لفهد الذي مال بجذعه إليه وهز جسده باستمرار كطفلٍ في حلقة تحفيظ.

أعذرنا أستاذ عبد العزيز أخذنا من وقتك!

لا أبدًا.

أكملوا حديثهم بينما أفكّر في المكان الغريب الذي وجدت نفسي فيه، حضرت عرض فيلم عن القطط في مقهى عن طريق تطبيق في الجوال والآن أنا أمام رجلين في منتصف العمر، واحدٌ منهم يتحدث كأنه مارتين سكورسيزي لكنه معتزل كديفد لينش والآخر يريد إنقاذ عالم الإنتاج لكنه لم يدخله، ورغم هذا أجد متعةً كبيرة في الاستماع لهما.

توقّف الأمر عن كونه يحدث لي وبات يحدث “أمامي” كلعبة واقعٍ افتراضي شديدة الواقعية.

لكنّي متفائل بالشباب والله، عندنا شباب بدأوا من قناة يوتيوب والآن مسكوا أفلام!

قلت -بلا حسن نية- منتظرًا ردة فعلٍ عن قصة غريبة، ولم يخيبا ظني، رد فهد:

كنت معهم في المجموعة.

نظر حوله، وقال بعد أن أخفض صوته رغم أننا الوحيدين الباقين في الغرفة:

 كلهم منفاقين. إذا عندك قوة أو شهرة بيدورون وراك غير كذا أنسى. كنت معهم في المجموعة، وحاولت أتمصلح مع كم مخرج منهم، لكن ما أعطوني وجه لأني غير معروف.

وصل الأمر حدّه بسكورسيزي الذي قال:

أنا أستأذنكم، مع السلامة.

فقاطعه فهد بسرعة البرق:

أستاذ عبد العزيز ما لنا غنى عنك، ممكن تعطيني رقمك؟

تبادلا الأرقام، وغادر عبد العزيز بسرعة وكذلك أراد فهد ولكن عيني لاقت عينه، فحال الخجل بينه وبين المغادرة وقال:

سبق واشتغلت على أفلام قبل؟

نعم، عمل مستقل…

وقبل ما أقول اسم فلمي مع صديقي المخرج رأيت الاهتمام يموت في عينيه، فتر وجهه وسقط جسده على الكرسي وبلل شفتيه اليابسة، فقررت أنه آلم نفسه كفاية هذه الليلة، وسكتْ.

في اللحظة التي لازمت فيها الصمت طلب رقمي -رغم بتري الجملة في منتصفها- ثم وقف مخرجًا هاتفه ليسجّل الرقم.

كانت هُناك مشكلة واحدة، فهد قصير، وأستطيع رؤيته من مكاني فاتح برنامج الحاسبة، فأكملت:

صفر صفر، صفر صفر، واحد.

سجّل في حاسبته “النتيجة” التي كانت خمسين مليون وأربعمئة ألف وواحد ونظر إلي قائلًا:

فرصة سعيدة أستاذ…

محمد.

فرصة سعيدة أستاذ محمد، تشرفت!

فاستوقفته:

ممكن تعطيني رنة عشان أسجل رقمك؟

رغبته بالاتصال كانت حقيقية جدًا جدًا، لكن توجب عليه حينها الانصراف لدورة المياة فأخبرني أنه سيتصل علي من السيارة، ما أعرف أي حمام راح لكني لم أره إلا عندما وقفنا في نفس الإشارة في طريق عودتي.

عجبتك القصة؟ 

اشترك في المدونة حتى لا تفوتك قصصٌ مثلها

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
×