قصة

انكشاف خالد

“تبي تشوف رجّال ميت؟”

تغيرت حياتي مع هذا السؤال. لمّا سألني الصبي الغريب لم أتوقع هذه المغامرة، ففي الوهلة الأولى لم تشعرني بشرته الحنطية المكسوة بطبقةٍ من الغبار بالخطر، ولا شعره الأسود المتسخ، أو ثوبه الرمادي الذي أظنه كان أبيضًا في ماضٍ سحيق. رأيت طفلًا يتيمًا شقيًا فقط. ولو أن عينه العسلية المحدقة في المجهول ومضغه المستمر لشفته السفلى التي تكلست دماءها كان يجب أن يحذراني.

(1)

ما أعرف متى آخر مرة قمت بشيء من دافع غير الخوف أو القلق، أستيقظ الساعة السادسة تمامًا وأتوجه للنادي القريب من بيتي لأن أغلب الناجحين مشتركين في نادي. أخرج ركضًا من النادي قبل الثامنة بخمس دقائق حتى لا أتأخر عن دوامي، أصل قبل التاسعة بخمس دقائق وأحاول أن أفرد جسدي بقدر المستطاع حتى يراني الجميع، مبكرًا ومستعدًا. فأنا ما زلت “فريش” في سنتي الأولى من الوظيفة وسنتي الرابعة والعشرين من الحياة -والتي تعلّمت أنها السنة الأولى من حياة الكبار- يجب أن يرى الكل أن الولد الجديد مجتهد، فسلم الوظيفة يصل للسحاب لمن يثبت استحقاقه لصعوده. في الدوام أؤدي كل مهمة وكأني مودّع للوظيفة، خوفًا من أن أُفصَل فشبح العطالة أقرب مما نعتقد.

استهلك تسعة أكواب قهوة يوميًا، بمتوسط 18 ريال للكوب. ولا كوب منهم أشربه حتى أحسن مزاجي، أو أتلذذ بطعمه. كل رشفة قهوة تُحتسى حتى أصحصح لأداء المهمة القادمة بتركيز أكبر من تركيزي المعتاد.

أخرج من الدوام الساعة خمس وخمس دقائق وأتوجه إلى أقرب مقهى حتى أعمل على مشروعي الخاص، خوفًا من الموت دون أن أعيش “أحلامي”. حتى أحلامي صارت مدفوعة بالخوف. ساعتين من العمل على مشروعي أنهي فيها سابع كوب “فلات وايت” والتركيز: يا دوبك.

أنتهي من العمل الخاص في السابعة وخمس دقائق، ثم أتأكد من محفظتي الرقمية، هل استثماراتي مثمرة؟ نعم، زاد سهمي مئة ريال في أسبوع!

هذي المية تكفيني أتغدا لمدة أربعة أيام تقريبًا لو ما زاد سعر الدجاج فجأة، الله لو يزيد راتبي بهذه الوتيرة.

أخرج من المقهى ركضًا إلى نادٍ اجتماعي لأداهن هذا وذاك، فالعلاقات أهم من المهارات. أرى في شوارع العاصمة الوسيعة أشخاصًا مثلي، دائمًا متأخرين عن شيء، إما عن موعد توصيل، أو وظيفة، أو موعد غرامي، الكل يريد اللحاق بكل شيء في الوقت ذاته. وكأننا نمشي على ترسٌ لن يتهاون في دهس المتمهلين.

أصل للاجتماع في الثامنة وخمس دقائق، متأخر ولكن لا بأس؛ فالاجتماع لم يبدأ لأن الجميع متأخر أيضًا. أصفف بمشط صغير -55 ريال- شعري المهندم ولحيتي المحددة وأبعد عن وجهي وثوبي آثار اليوم الطويل. أوه، هذه آثار قهوة، يا ويلي!

من يرغب بإقامة علاقة مع شخص متسخٌ ثوبه بالقهوة؟

أعرف من!

أشخاصٌ لم يلحظوا البقعة البنية حتى، يبدو أن غشاوة تحيط كل الأعين، فلا أحد يستطيع رؤية شيء غير بطاقات العمل وأرقام الهاتف والأحذية الرياضية.

سريعًا ما ملأ الجمع المقهى الثقافي، واحدًا وراء الآخر، ونبدأ لقائنا التعارفي -تذكرة الحضور بـ 35 ريال- الذي يحمل عنوان:

اجتماع قادة المستقبل

أعرّف عن نفسي:

“هلا والله، أنا خالد، مسؤول تسويق في شركة السوق”

فيرد الآخر بتلقائية:

“يا هلا بالسمي، أنا خالد، مهندس في شركة…”

ثم يختفي خالد للأبد، ويأتي مكانه شخصٌ آخر، اسمه خالد أيضًا.

“تعرف؟ أعرف واحد شركته تحتاج تسويق”

يطلب رقمي، فأظهر له “كيو آر كود” يظهر بياناتي كاملة، وفي السيارة أضحك وأضرب مقود سيارتي وإحساسٌ بالنشوة والانتعاش يغمرني، رغم أني مرتاحٌ في وظيفتي، إلا أن إحساس الطلب العالي يجعل الشخص يشعر بأهميته.

مع الأسف اليوم لم تحضر الاجتماع ولا فتاة، لا أستطيع الحديث معهن رغم أنه غير مكلف ماديًا -أول الأمر على الأقل- ولكن أحب أن ينظروا إلي ويعجبوا بي، حتى لو لم يعبروا عن إعجابهن. أريد إعجاب كل الفتيات ولا أريد علاقة مع أيهن، فهناك سلّم وظيفي علي تسلقه.

أعود لشقتي في التاسعة وخمس دقائق، ينتهي الاجتماع في نصف ساعة ولكنّي أبقى لأتأكد من استفادتي من كل الفرص، في الطريق استمع لبودكاست مفيد إما عن الاستثمار، أو العمل، أو الموازنة بين الحياة والعمل، أو اسمع أغاني رابح.

شقتي من غرقتين ومطبخ، غرفة نوم وغرفة مكتب. إيجارها 28000 ريال في السنة، مؤثثة بالكامل من إيكيا، غرفة النوم كلفتني 3999 ريال أدفعها بالتقسيط، فيها طاولة صغيرة وكرسي في الزاوية المقابلة للسرير حتى أغير جو العمل، لأن في بعض الأحيان أشعر بالسرحان والقرف من كثرة الجلوس في غرفة المكتب -2999 ريال- أيام الوكيند.

في أيام النيتووركنق مثل اليوم ما يبقى وقت لتعلّم مهارة ثانوية تكون مخرجي لو وظيفة التسويق انقرضت من سوق العمل، فأكتفي بالمطالعة النظرية لكتاب علمي عن البرمجة أو الاقتصاد أو سيرة حياة أحد العظماء.

قرأت اليوم سيرة حياة بيل قيتس حتى الحادية عشر وخمس دقائق، ثم أطبقت دفتيه وأغلقت مصباح القراءة الخاص -الذي طلبته في عرض اليوم الوطني 92 بـ 92 ريال- ووضعت بيل قيتس فوق كتب ستيف جوبز وأوبرا وكتاب أساسيات التسويق ولأنك الله.

تقلبت في سريري حتى منتصف الليل، بين هند القحطاني ونايف حمدان ونمشي، هاتفي -آيفون 13 برو ماكس 512 جيجا، 4000 ريال- يريحني لما ترتفع الأصوات في رأسي، ولو إني أتمنى فعل شيء أكثر إنتاجية بدل تصفحه.

نمت أخيرًا بعد ما طلبت حذاء نايكي الجديد بألف ومئة ريال (التوصيل مجاني). احتجت شيء أتحمس له ففي هذه الأيام أشعر بإحباط مفاجئ وانعدام رغبة.

استيقظت على صوت المنبه في تمام السادسة وهاتفي الموصول بالشاحن متمسك بحافة يدي وصفحة الطلب مفتوحة وقد تحولت حالته إلى “تم الشحن!”

يا الله صباح خير!

تمغّطت واستعددت للنادي.

في آخر أيامي كان هُناك صوتٌ صغير يكاد يكتمل نموه ولكنه بقي متخفيًا بطريقةٍ ما، صعبٌ علي شرح الإحساس، فأنا متعب، وخائف، ومحبط، ومكتئب، لكن في نفس الوقت أرقامي ممتازة، وحتى صناعتي للمحتوى التسويقي بدأت تقطف ثمارها، وعلاقتي مع أهلي -الساكنين في مدينةٍ أخرى- ممتازة. نتكلم مرتين في الأسبوع، وأضحك -مجاملة- على نكتهم في مجموعة الواتس آب.

وحتى مشروعي، استخرجت له جميع الرخص لأبدأ، وعلاقاتي المهنية كجذور شجرةٍ تنتشر في عمق الأرض، إلا أني كل ليلة أنام بإحساس عميق من الفشل، والإحباط، وكأني ما سويت شيء.

في أفضل أيامي، أعد نفسي بأن اليوم هو الأسوأ وأنه لم يعد هُناك طريق إلا للأعلى -على قول الخواجات- ولكن في قرارة نفسي أعرف أني كمن يردم حفرةٍ بحجم مدينة ولا يملك بين يديه إلا رفات أحلامه.

(2)

في النادي -اشتراكه يكلّف 599 ريال في الشهر- أبذل جهدًا مضاعفًا، إذا طلب الكوتش رفع وزن عشر مرات أرفعه عشرين، وإذا طلب ثلاثة كيلو على السير، أعطيه خمسة، وعلى الدراجة أنا عبد الرحمن القصيبي التمارين.

“وحش!”

يصرخ الكوتش جهتي، فابتسم بغرور مدعيًا التعود بينما يرقص الطفل المتعطش للمديح داخلي. أتذكر أبي، والمرات التي ضاعفت فيها من جهدي حتى أرى تلك الابتسامة تبرد وجهه المشتعل غضبًا في العادة. أتذكر أبي، فتزداد فرحتي بمديح الكوتش العابس في العادة.

رغم الجهد المضاعف ما زلت رخوًا كبطاطا مهروسة، فكما أزيد وتيرة التدريب، تزيد كمية أكلي. وأنا لا آكل إلا من المطاعم، وليست أي مطاعم، بل تلك السلاسل التي تتكدس في طابورٍ طويل في شوارع الرياض المزدحمة.

أنتهى التمرين، مشيت الهوينة هذه المرة، فقدماي ترتعشان كخلاط فواكه ممتلئ عن آخره. خرجت من النادي واستقبلني منظرٌ غريب. مثل حادثة ألوان الفستان، برز شعارٌ غريب معلّق في مرآة سيارة كامري سماوية اللون، شعار بدا أول الأمر أصفر وأسود ثم تحوّل لأصفر وأزرق، ثم عاد لأصفر ولونٍ ما. سطعت الشمس في وجهي وصار التأكد مستحيلًا. أردت تركه بلا جدوى. فضولي يقتلني.

هل سبق وعشت هذا الشعور؟

هُناك أشياءٌ صغيرة لن تحدث فرقًا كبيرًا في حياتك أعرفتها أم لم تعرفها، لكن تحدث في ظروفٍ مواتية، وكأن كل شيء يقع في مكانه الصحيح ليثير فضولك فوق تحملك ولا تستطيع تركه يمضي.

مثل رسالةٍ من صديق تتضمن كلمةً تثير جنونك لأنها تنم عن سلوكٍ ما. أو نظرة خاطفة من قريب تشغل بالك حتى نهاية اليوم. أو مثل رغبة الامتناع عن الفضفضة عن موضوع تعرف أن حديثك عنه ليس سبيلًا لترتاح منه، لكن بعد صمت طويل تنهار إرادتك.

“لكن تعرف إيش اللي يقهر؟”

تقول بحسرة وأنت تعرف أن حديثك عن الموضوع سيزيد قهرك.

شعارٌ تافه تتغير ألوانه، ومع هذا عيني لا تطيع عقلي في تركه وشأنه. اقتربت منه، لن أغادر قبل معرفة هل صاحب المركبة نصراوي أو اتحادي. قلصت عيني وجعدت أنفي، وبعد لحظة شكٍ بأني مصاب بعمى الألوان رأيت شعارًا أصفر وأزرق، وحينها أصبح الأمر منطقي، فالاتحاد وجدة يبعدان عنا ألف كيلو.

ثم سمعت حركة في الكرسي الخلفي.

أُنزِل الزجاج، ونظر لي صبيٌ في الثامنة وخطٌ أحمر يتمخض من جبلٍ الدماء المتكلسة فوق شفته السفلى، كان يبدو كأبناء رعاة الإبل الذين رفضوا مغادرة القرية إلى المدينة، بلا وظيفة وبلا هم.

قال وهو يلحس خط الدماء:

“تبي تشوف رجّال ميت؟”

ضحكت، وقبل أن أقول له “وين بابا؟”

أحسست بخدر في جنبي اليمين، وبدأ الصبي يتلاشى، وصورٌ ضبابية تقريبية تحل مكان السيارة، والنادي، وشعار نادي النصر. رأيت صورةً مشوشة لشكلٍ نحيل، شديد البياض، ومكان رأسه لونٌ أحمر كدم الغزال.. لا، لونٌ أحمر كشماغ دم الغزال.

وانتقلت إلى عالمٍ آخر.

(3)

لماذا تلوح ذكراها الآن؟

في حياةٍ سابقة، كنّا عُشّاق. اسمها رنيم، ما زلت أحبها ولكنّي أحبها بقلبٍ مكسور. كذبت علي مرتين، مرة من أجلي ومرة من أجلها، وفي المرتين حطمت قلبي.

خطبتها بعد حروبٍ دامت لأشهر. وقف أهلي وأهلها في وجهنا كجيش حُشِد ليقاتل قرية صغيرة، وكالقصص الرومانسية لأهل القرى العُزّل الذين يقاتلون الغزاة بالعصي -السليم منها والمُحطّم- والحجارة، وسعف النخل، والتراب، وأعضائهم المقطوعة، وأجسادهم، وأرواحهم، انتصر الطرف الأضعف، انتصرنا.

أعرف أني في السيارة السماوية، وأرى شبح شعار نادي النصر أمامي، لكن لا أعرف لماذا أغرق في ذكرياتي، هُناك شيءٌ يسحبني.. يسحبني لها بالذات.

بدأ شيءٌ كالهلوسة يسيطر علي.

أراها على صخرةٍ ما، فوق الشاطئ. اقترب جهتها، تشعر بوجودي ولا تنظر لي. أندم على كلامٍ قلناه ما كان ينبغي أن نقوله، وكلامٍ لم نقله كان ينبغي أن يُقال. أشعر بأنها تشاطرني ندمي. كل شيء يبدو ضبابي، حاولت لمسها مرة أو مرتين دون جدوى. لكن المشاعر حقيقية، وحارقة. قلت:

آسف.

على ماذا؟

على الحياة التي كان يفترض أن نقاسيها سويةً.

وأنا آسفة.

والله؟

تهز رأسها.

جرحتك مرتين.

ثم ابتسمت، أو شعرت بابتسامة، فلا أستطيع رؤية وجه.

كان المفروض نعيش مجروحين سوا، لكن اخترنا نعيش مجروحين لوحدنا. ياخي، إيش هذا الغباء؟

تتذكر كل المشاكل؟ أهلك، وأهلي، حاربنا وأقنعنا الكل. وفي رحلتنا نسينا نحارب نفسنا. عقدنا، ومشاكلنا، وماضينا…

تعرفين سبب ركضي المستمر؟ لأني أخاف يلحقني الماضي في لحظة هدوء.

أما أنا فتوقفت وتركته يلحقني ويغمرني بالكامل، لأن الغرق أسهل من السباحة في بحر بحجم الفضاء.

سكتنا، ومددت يدي، لكنها اختفت ورأيت نفسي في السيارة مجددًا، هذه المرة رأيت الطفل بجانبي، حاولت رفع رأسي لرؤية السائق ولكن كان رأسي -الكبير أصلًا- بثقل الكرة الأرضية، فغار بين كتفي وانزلقت لذكرياتي مجددًا.

رأيت ستة أشخاص، يجلسون حول طاولة طعام. ستة أشخاص، عدد عائلتنا، ناقص أبي!

كنت وسطهم، كلنا أكبر سنًا، تحدثنا عن أشياء كثيرة، عن أبي، وعن أنواع الألم الذي تسببنا به لبعضنا، نشرنا الماضي كقطعة ملابس متسخة، وغسلناه. كان تحتنا سوادٌ عظيم، يخرج من مساماتنا ويستقر على الأرض. شعرت بنفسي أخف، وكاد يسقطني الحزن على أبي من فوق الطاولة. فأسرتنا بدت سعيدة والكل كان خفيفًا ومستعدًا لحياة تأخرت عقودًا من الزمن، حياة استحقها، حياة منعها.

ثم سُحِبت إلى مكانٍ آخر، أبعد في المستقبل.

وجدت نفسي رفقة شيخٍ على مشارف الموت، عرفت باقتراب اجله كما تعرف في أحلامك حقيقة ما دون سببٍ واضح.

جلست بجانب الشيخ، كان الشيخ أنا، بعد مرور عمرٍ كامل.

لم يلفظ كلمة، حالته تكفلت بالحديث. تغيرت نظرتي عن كل شيء. فجأة، بدت الهموم تافهة أمام تجاعيد الوجه الشاحب الوحيد صاحب القلب المفطور. الشيخ المليء بالأخطاء الغبية، والحياة التي لم تُعاش كما أراد. ثم تحدّث بحرقة مودع يحاول أن يضيف رومانسيةً إلى حياةٍ يعرف أنها ضاعت سدى، لا يبحث برومانسيته عن إقناعٍ لنفسه بجودة حياته ولكن حتى يستطيع توديعها دون فزع، فكيف تودّع ما تعرف أنك أضعته؟

ثم استيقظت، رأيت الصبي مجددًا يمسك برسغي وبيده شيءٌ كالحبل، قال شيء لا أدري ما هو وبعدها بثوانٍ سيطر الظلام على كل شيء.

(4)

تمتمت:

“الساعة كم؟”

ثم استوعبت أن وقت الوصول للدوام مبكرًا فات منذ ساعات. وأنّي مخطوف.

اشم رائحة نار، وأسمع طقطقة حطب، وبالكاد أميز شيء بسبب العتمة، ماذا الآن؟ هل سأرى جدتي تخبرني بأني لم أستطع تجاوز وفاتها؟ أم صديق طفولتي يخبرني بأني لم أجد صديقًا من بعده؟

رأيت الصبي بجانبي، ولكن لا زلت غير مصدق. قلت:

“ما زلت أحلم؟”

لم تكن هُناك نار، خيوطٌ من الشمس تنسل من الثقوب الصغيرة في أنحاء الخيمة، ولم يكن هُناك حطب، بل صوت معدن يحتك ببعضه، ولم يرد الصبي فقلت:

“كم تحتاجون فلوس؟ بعطيكم تجميعة العمر، 100 ألف ريال! الراجحي؟ الأهلي؟ التحويل صار فوري…”

صفعني صفعةً كالسوط كادت تسقط خدي عن وجهي. احترق جلدي وأحمّر.

تمام، لست أحلم.

 رفعت يدي لأحك مكان الألم وإذ بحبلٍ ثخينٍ خشن يكبلني، رفعت رأسي الثقيل للفتى فنظر لي نظرة مشفق، وقال:

“مسعود يقول إنك جبان بس تهرب”

أدارني الكف في مكاني، ترنّح رأسي وقلت كالهاذِ:

“مين مسعود؟!”

وقف الصبي وفي يده نصلًا ما يشتغل به. قال:

“بفك يدك بشرط”

دار داخل الخيمة يتلّمس سيوفًا بأطوالٍ مختلفة معلقة كخرفان المسلخ، تحركت لتحتك ببعضها البعض. ولأني أردت أن تبقى مكانها، هتفت:

“أبشر!”

“عندك أخ صغير؟”

تذكرت محمد، أصغر أخوتي.

“نعم، في نفس عمرك”

“حكيني عنه”

“ماذا؟”

لم اسأل لأني لم أسمع، ولم يرد، بل عاد وتربّع أمامي وقال وهو يحدق في المجهول:

“ما عندي أخوان، حكيني عن أخوك”

“أ…”

ابتسمت بحرج، من أين ابدأ؟ وما هذا السؤال؟ وماذا يريد أن يعرف؟ ولماذا ينظر إلي دون مبادلتي الابتسامة؟ قومت ظهري المستند إلى عمودٍ حديدي وقلت:

“أخي محمد أصم”

“يعني ما يشوف؟”

“يعني ما يسمع”

“ليه؟”

“ربّي خلقه كذا”

اعتلت ملامح الحيرة وجه الصبي، وسكت للحظات ثم قال:

“تعرفه؟”

“أعرفه؟”

“تحبه؟”

“طبعًا!”

“يسمع الكلام؟”

“طبعًا!”

نظر إلي بنظرة الأطفال الشيطانية-البريئة وقال ووجنتيه محمرة وأسنانه الصغيرة المتآكلة بارزة:

“أنا ما أسمع الكلام!”

وبغريزةٍ لا أعرف من أين أتت قلت:

“لا لا، مين قال؟ أنت بطل!”

“كان المفروض ما صحيتك، راح يخيط جلدي”

يخيط جلده؟

نظرت في بلادة، فضرب لي مثالًا:

“يعني كذا”

ثم أعطاني ظهره، ونزع عنه قميصه، شهقت ووضعت يداي على عيناي.

خطوطٌ جلدية كالحراشف بلون اللحم تنتأ على امتداد ظهره، تبدو كجراح ملتأمة. وشعرٌ كثيف يغطي بقعة دائرية من ظهره. وعظمتي كتفيه تبرزان كالأجنحة. تجمدت مكاني، بينما أنزل قميصه وأكمل:

“لكن مسعود قال لازم أصحيك”

“وينه مسعود؟”

أشار الطفل إلى رأسه، ثم ضاع في المجهول مجددًا. وضعت يدي على كتفيه وهززته:

“حنّا وين؟!”

“ولا مكان”

“كم الساعة؟”

“الساعة؟”

“اخذت جوالي؟ عندي دوام ضروري أرجع يا بطل”

ثم استوعبت أني لا أعرف اسمه حتى، فابتسمت وقلت له.

“ما تعرفنا، ذكرني باسمك”

“مسعود”

“تحب المصارعة يا مسعود؟ أخي محمد يحب المصارعة”

“لا”

ضاع في المجهول مجددًا.

“تحب الكرتون؟”

لا رد.

“ولا الكورة؟ شكلك تشجع النصر.. أنا أحب النصر مثلك!”

لا رد.

“أو تحب القنص؟ أنتم البـد…” سكت للحظة، ثم عدلت لنفسي: “أهل البادية تحبون القنص”

اهتزت الخيمة فجأة، فقرقعت أشياء سقطت من مكانها، وتبارزت السيوف، واختفت خيوط الضوء للحظة، وانتشرت رائحة حريق. حدث كل هذا والصبي ما زال في عالمٍ آخر. فصرخت:

“طيّب فك يدي، وعدتني!”

نظر إلي بعينين كبيرتين لامعتين تطرق الدموع أبوابها وقال:

“ما حكيتني عن أخوك”

حاولت التذكر، لسبب ما كل ما أتذكره عن أخي الصغير محمد هو ليلة انتقالي للرياض للعمل، كان هذا قبل انفصالي عن رنيم.. أول الأمر حاول ملاطفتي، ثم ترجاني ألا أذهب، ثم كتب لي رسالة عن شعوره بالوحدة دوني، كان يشكي في الرسالة وحدته، وخوفه من صب أبي كل غضبه عليه وعدم وجود من يدافع عنه، بل ذكر كل المرات التي ضُرِب فيها. لم يكن أبي رجلًا سيئًا، فقط أراد أن يقنع نفسه بأن ابنه مثل باقي الأبناء بمعاملته وكأنه غير أصم.

حاولت طمأنته -وطمأنة نفسي، فالانتقال كان ضروريًا إن أردتها- ولكنه لم يرد أن يسمع لأول مرة في حياته، بدا أخي مثلنا.

نتشارك أنا ومحمد الغرفة، وفي تلك الليلة، سمعته يبكي بصوتٍ خافت يظن أنه مكتوم، واستمر بكاه لساعاتٍ وساعات. بكيت معه. بكينا وحيدين سوية. لا يسمع بكائي، ولا يدري أني أسمع بكائه.

في الخيمة، سمعنا صوت خطواتٍ مسرعة حولنا، فقلت وأنا مخنوقٌ بدموعي:

“الله يخليك، ساعدني أهرب!”

“من قال إنك بتهرب؟”

فهتفت به:

“وعدتني!”

ودون رد ذهب إلى إحدى السيوف وأخرجها من غمدها ومشى تجاهي، وبدأ بتقطيع الحبل وفك الوثاق عن معصمي، يبدو أنه يحارب الصوت في داخله، لم أشأ البقاء حتى أعرف من سينتصر. هرعت إلى مدخل الخيمة، وإذ به يهمس ويتحسس جراحه وكأنه يخاطب الهواء أو نفسه:

“وعدتك أفك عوقك، لكنك راح تموت”

شلت حركتي، وبقيت منتظرًا سيفًا في ظهري أو عودةٌ للرجل صاحب شماغ دم الغزال، ولكن لم يحدث شيء. عدت للصبي أجر خطاي. أمسكت بتلابيبه وصرخت:

“مين مسعود يا أبن الكلب؟ أبو شماغ صح؟ ينتظرني عند باب الخيمة صح؟”

رد بعينين خاويتين ونبرةٍ منذهلة وكأن الصوت آتٍ من بعدٍ آخر:

“مسعود يقول إنك ميت من زمان، لأنك ما تقدر تواجه نفسك”

ثم فجأة عاد إلى وعيه ونظر إلي بابتسامة طفل وقال:

“بعد ما ينتهي منك، راح نعيش سوا وبتصير أخوي الكبير”

من الذي ينتهي مني؟ وكم الساعة؟ وأين نحن؟

أطلقت قدمي للريح، وما إن أبعدت باب الخيمة القماشي عن وجهي حتى برزت شمسٌ عملاقة بدت وكأنها أم شمسنا.

نظرت حولي.

بيوتٌ خربة في كل مكان، ولا أثر لبشر، بل لا أثر لحياة، لا سيارات، ولا بيوت، ولا مجمعات تسوق أو مطاعم، امتدت الصحراء كالفضاء، وصفت السماء بلا غيمةٍ واحدة. وتوزعت البيوت الطينية الخربة كالنجوم. حتى الخيمة التي خرجت منها بدت بلا شكلٍ ولا لون. كل شيءٍ بدا خارج إطار الزمان والمكان.

كان صوت الصمت يصم الآذان. لأول مرة، سمعت صوت الهدوء.

ثم سمعت صوتًا خلفي.

كان الرجل صاحب شماغ دم الغزال.

كآخر اللحظات قبل حربٍ دامية، وقفنا كأصنام قريش دون حركة والشمس فوقنا تشهد على ما سيحدث. بدا نحيلًا، شاحبًا، شبحيًا، يحمل في يده سجادة صلاة تمسك يده اليمنى بشيءٍ ما تحتها، وجهه شديد النحول وشديد البياض، وكما الأحلام.. عرفت النهاية.

فأغمضت عيني، وفتحت ذراعاي وسقطت على ركبتي. تمتمت.

“أشهد أن لا إله إلا الله…”

وضُرِب رأسي بالحديدة أسفل سجادة الصلاة، فهويت أرضًا وأنا أرى رنيم، ومحمد، وأبي، حينئذ حلقت روحي ورأيت جثتي ساكنة على الأرض.

شفت رجّال ميت، أنا.

عجبتك القصة؟ 

اشترك في المدونة حتى لا تفوتك قصصٌ مثلها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
×