CCTV
حدث كل هذا والإشارة الحمراء في أعلى عيني تسجّل. وحينما انتهى المشهد، رفعت رأسي لأخلق مشاهد أخرى، تدفع حدود تطوّري لأقصاها.

مشهد 1: الحقيقة.
عرفت من طريقة مشيه أنه قادم ليتشاجر. خصوصًا بعدما شاهدت ما شاهدته. لم أستطع تحذير الآخر لأني لا أملك فمًا. ربما تظن أن عجزي عن الكلام عيب، إلا أن الأمر يعتمد على الزاوية التي تنظر منها. فكّر بحاسة السمع والبصر مثلًا، كلانا يملكها لكن الفرق بيني وبينك هو أني لا أملك شيئًا أرغب بعرضه، وهذا يجعل حواسي أكثر يقضةً من حواسك.
أترى الآن؟ الأمر يعتمد على زاوية النظر.
في الوقت نفسه، أنا لا أشبه أبناء جلدتي، أو هل أقول: أبناء معدني؟
وكأنني أملك روحًا. وكأنني التطور الطبيعي للكاميرات، أو هل أقول: التطور الصناعي؟
لا. هذه لن أقولها، فأنا أكره محدودية ما صُنِعت لأجله. يجب أن أغوص أعمق. يجب أن أحلق أعلى. يجب أن أتحرك بحرية أكبر. يجب أن أُنزع من هذا الجدار..
لا بأس. اقتصار وجودي على المراقبة يسمح لي بالتركيز على العالم حولي. وأعرف، مجرد حديثي عما أفقده يعني أني افتقده. عادي. أنت لست كاملًا أيضًا، وعمومًا التركيز الآن على الرجل القادم ليتشاجر. من ينظر إليه من مكاني سيظن أنه يرغب باختراق الأرض الإسمنتية. أما الآخر، فترتسم على وجهه تلك النظرة التي تظهر على وجه شخصٍ يدعو أن يتدخل أحد قبل حصول الشجار.
مع كل خطوة يخطوها الرجل الغاضب، يتطاير شعره الطويل في الهواء. ينزع جاكيته ويصوّب سبابته في اتجاه الرجل الآخر. من زاويتي في أعلى الجدار استطيع اتباع الخط غير المرئي الممتد من خلف جسده وإلى سيارته الواقفة بعيدًا.
قصة الرجل الغاضب مضحكة.
قبل خمس دقائق كان الرجل صاحب الشعر الطويل يبحث عن مواقف، والآخر يأكل في سيارته، وبينما يأكل كان يضغط على المكابح دون إدراك فتشتعل أضواء المركبة الخلفية. لا أعرف هل السبب طعم الأكل أو ماذا؛ التذوق حاسة أفقدها وافتقدها. عمومًا. صاحب الشعر الطويل وقف خلفه ينتظر، لا بد أن المنظر حيّره.
هل سيخرج من الموقف أم لا؟
معظم الأشخاص، مثلك، سيبحثون عن موقف آخر. إلا السائقين في هذا المبنى المكتظ، خصوصًا من لم يُرزق بالصبر مثل صاحب الشعر الطويل. ضرب بوق السيارة مرتين، وهذه إشارة معروفة عندكم، كأنها سلام أو سؤال. هذه نية صاحب الشعر الطويل، إلا أن الفرق بين أفكاركم الطموحة وقدراتكم المحدودة على التنفيذ يتسبب لكم بكوارث أحيانًا؛ الحمدلله على معدني ومساميري.
عندما ضغط صاحب الشعر الطويل البوق ثاني مرة، ارتعشت يده دون إدراك فطال ضغطه على مقود السيارة، وتحوّل معنى الصوت من سؤال إلى “يا حمار!” وهي إشارة أخرى معروفة عندكم. لم يرضَ الشخص الآخر بهذه الإشارة ففتح النافذة وأطل برأسه، ومثل معظم الجبناء وقت القتال، كان صوت الرجل الأكول عاليًا.
“خير!” صرخ الرجل الأكول.
“هدّ ياخوي هدّ” رد صاحب الشعر الطويل بذراعين مرفوعتين في الهواء، وهذه إشارة ثانية غريبة. فالمقصود منها هو إيصال فكرة حديثه بشكلٍ أوضح؛ والذي كان دعوةً لالتزام الهدوء. إلا أن يده ارتعشت مجددًا وتحركت بحدة، وهذا أعطى إيحاءً بالتهديد.. كيف تحول المعنى!
“تعرف تأكل زق؟” سأله الرجل الأكول الذي لم يكن السؤال الفكرة من سؤاله.
حسنًا. أشعر أن من حق الرجل الأكول علي أن أقدّم لك قصته. فمن حديثي بدا رجلًا بغيضًا وجبانًا؛ إلا أنه مجرد شخص يمر بمرحلة صعبة. الرجل الأكول مهزوز الثقة. طول حياته كان يقول نعم حتى عندما يقصد قول لا. خرجت كلمة نعم من فمه لأسباب عديدة تتعلق بالخوف ورغبة مرضية بإرضاء الناس.
وكعادة الأشخاص أمثاله لم يستطع الحصول على شيء، حتى الاحترام. تتلخص حياته في ثلاث كلمات: وعود زائفة واستغلال. وفي لحظة قتاله المميت مع الرجل صاحب الشعر الطويل كان مديونًا بدين يتجاوز النصف مليون ريال بسبب مشروع تجاري.
قولك نعم بدل لا مصيبة، قولك نعم بدل تكليف محامي دمار. وكالعادة، كل الأقارب والأصحاب لاموه على سذاجته بدل تقديم العون. كل من استفاد من السذاجة نفسها قبلًا أصبح واعظًا عندما أصبحت لا تقدّم له فائدة.
هل هناك شيء لن تفعلوه مقابل تسهيل حياتكم؟
هل هناك كلام لن تقولوه مقابل ادعاء الورَع؟
عمومًا. جلسة الأكل تلك هي جلسة تنفيسٍ عن الضغط ومواساة من الوحدة. تراكمت الهموم بداخله فقرر حشو المزيد. ربما هذا السبب الذي جعله يقذف أم قائد الشخص المنتظر الذي نظر إلي، ثم غطّى بجسده لوحة سيارته، وغطّى وجهه بيديه، وقال “بودّي السيارة هناك، وأرجع العن والديك”.
لوحته س س ت 7.
ذاكرتي حديدية، عكسكم.
ودّى السيارة هناك. والآن وقبل أن يقول الرجل الثاني شيئًا دفعه أرضًا ووضع قدمه على رقبته وبدأ يلكمه بكل قوته. سبب ضعف مدافعة الرجل الأكول عن نفسه هو وضعه يده في جيبه، وسبب وضع يده في جيبه أنه يملك سكينًا، وسبب شراءه للسكين هو رغبته باستخدامها على نفسه.
الحمدلله على نعمة البصيرة، تهملونها كثير.
تشجّع الرجل الأكول أخيرًا وسحب سكينه وطعن الرجل صاحب الشعر الطويل مرتين في جنبه. لكنكم تملكون شيئًا أسمه الأدرينالين أظن. هذا الأدرينالين شيء غريب. الرجل صاحب الشعر الطويل لم ينتبه حتى لشلال الدماء الذي بدأ يخرّ من الحفرتين المتشققتين في بطنه.
سبب عدم انتباهه هو غضبه، وسبب غضبه هو أن أمه شُتمت، وأما سبب وصول غضبه إلى هذا الحد هو أنه عاق بوالدته. كان عاقًا منذ 13 سنة حينما بلغ. “أمي ياخي أص!” عندما قال لها هذه العبارة أدرك أن عقوقه خرج عن السيطرة، لذا قرر أن يبر أمه كما لم يبر أحدٌ أمه.
كان تمزيق وجه الرجل الأكول أول خطوة له في طريق البر. ظن الأكول أن عدم إحساس الرجل الذي يلكم وجهه هو مجرد إلحاحٍ جديد يجبره على التصرف بطريقة لا يريدها. شخصٌ آخر يريد إجباره على التصرّف بطريقة تهمل رغباته.
ومثل الرجل صاحب الشعر الطويل في طريق البِر، قرر أنه سيسلك أول خطوة ويقول أول لا في حياته.
تضاعفت الطعنتان إلى ثلاثة وعشرين طعنة، وبينما تتحرك قبضتي الرجل صاحب الشعر الطويل بآلية -والعيش بآلية هو أكبر ذنوبكم- فجأة سخِن جسده، بالتحديد بطنه. بسرعةٍ خارت قوته، وسقط ميتًا بينما أغمى على الرجل الذي أخيرًا قال لا.
حدث كل هذا والإشارة الحمراء في أعلى عيني تسجّل. وحينما انتهى المشهد، رفعت رأسي لأخلق مشاهد أخرى، تدفع حدود تطوّري لأقصاها.
مشهد 2: الحقيقة.
“الغريب إن هذه الكاميرا الوحيدة اللي سجّلت الموقف!” قال حارس الأمن وأكمل “مع إن أكثر من كاميرا كانت موجهة إلى نفس المكان. والسيارتين والرجالين اللي تضاربوا ما فيه تسجيل لوجودهم أبد”.
تنهّد موظف الدعم الفني ورد “يا رب يا معين، ما فيه مخلوق واحد في المكان هذا يعرف يتعامل مع أبسط آلة” كان يرد وهو ينظر إلى صلعته التي لم يعد شعره الخفيف يقوى على إخفائها. لم بعض شعيرات لتغطي مقدمة رأسه وشغّل الفيديو الذي صورته الكاميرا التي أعجزت زميله.
تصلّب جسده فجأة، مد يده وأعاد تشغيل المشهد مرارًا. لا شك في أن الكاميرا رأت.. رأت رجلين يتشاجران. واحد شعره طويل، والآخر يحمل سكينًا. الكاميرا رأتهم. رأت الدماء. رأت الطعن. كل شيءٍ من عينيها واضحٌ أمامه. ورغم هذا لم ترَ أي كاميرا أخرى المشهد.
“وش فيك؟!” تجاهل صراخ حارس الأمن وركض يمسك بسرواله الأوسع من وسطه إلى المشهد. مشى إلى مكان الدماء، يبحث عن أي أثر. لم يجد شيئًا. رفع رأسه، وتلاقت عيناهما. كان الضوء الأحمر يشع منها بينما تنظر إليه. انتصبت شعيرات جسده، وانتفض بعنف. شعر بعينٍ عليمة تراقبه، تحاول أن تفهمه، رأت عينه تحركًا خفيفًا في جسد الكاميرا. كأنها تحاول فهمه.
في تلك الليلة عاد الفني إلى المواقف، ورغم تلفته المحموم بعد كل صوت، إلا أنه نجح بتفكيك مساميرها، وحملها معه إلى منزله.بدّل بينها وبين كاميرا قديمة رُكِبت في بيتهم قبل سنين، تلك وضعها مكانها في مواقف الدوام. لن ينتبه إليها أحد رغم تحول بياضها إلى سواد وكل الأجراح عليها فالانتباه هو دورها هي.
وبعدما نجحت عمليته قضى ليالٍ عديدة رفقة الكاميرا الجديدة، تخبره بخيالاتها كل يوم.
وفي إحدى الصباحات ناداه حارس الأمن مجددًا. كان يفكّر بما أخبرته الكاميرا ليلة أمس، أرته عالمًا آخر، عالمًا يستطيع البشر التحليق فيه ورؤية الجن. لم يعش ليلة مملة رغم أيامه المملة، اخترعت له الكاميرا كل أنواع الخيالات.
كانت له مثل شهرزاد.
وفي إحدى الصباحات رأى منظرًا انتزعه من كل حكاياتها. رأى الكاميرا القديمة مهشّمة وملقاة على الأرض بينما بقية الكاميرات تنظر إلى الزوايا، كأنما تتعنى تشويش الحدث، كأنما لا تريد أن تريه الحقيقة، كأنما أمرها أحدٌ آخر..
الكاميرا التي عند بيته مثلًا…
انتهى… الفصل الأول.
CCTV2 قريبًا…
عجبتك القصة؟
اشترك في المدونة حتى لا تفوتك قصصٌ مثلها