قصة

ق. ق

لكن اليوم، اليوم فقط، أتبنى الرأي الذي يقول أن بعض الليالي المتعبة تفرض علينا استثناءاتها. وليلتي أمس كانت غريبة.

أشم رائحة كريهة لا تزول. مع كل رمشة أرى جسديهما أمامي. وصلت الرائحة أقواها حينما فتحت خزانة الأحذية وخلعت جزمتي. لم أكن أتوهمها. لا بد أن أحذيتي هي السبب. صحيح أن بعضها استهلِك حتى تباعدت خيوط القماش وأصبح اصبع قدمي الكبير ظاهرًا، ولكنّي أواظب على غسلها كل ثلاثة أشهر. هُناك إحساسٌ تافه غير صحيح في الغالب يخبرني أن الرائحة لها علاقة بما.. بمن رأيت مدهوسًا.

أركّز في ضوء الأباجورة الأصفر وعندما يعميني البياض أراهما. كان أولهما مفعوص الرأس والآخر مقطوع الذراع. مدهوسين. لم استغرب من الجثة مفجّرة الرأس، فحتى جمجمة الإنسان لن تحتمل الضغط الهائل لأطنان الحديد، ما بالك بقطة؟

لكن الثانية.. كيف قُطعت ذراعها بهذه الطريقة؟ أحاول تخيّل المنظر لأمنطِق ما رأيت. 

تحاول القطة قطع السكة، تصيبها الحيرة عندما تكتشف أن حساباتها خاطئة. ربما أربكتها شمس الشتاء التي تنسل بغتة من بين السحب، أو البرد جمّد خلايا عقلها. والنتيجة هي اكتشافها المتأخر أن السيارات أقرب إلى جسدها الصغير من وجهتها. وفي الثواني القليلة التي يشغلها خذلان غرائزها عن التركيز على مهتمها تصبح في محيط عجلات السيارة.. الآلة اللا مبالية بهذا الكائن الأتفه من إزعاج سيرها. وفي حركة يائسة تقفز هرعًا إلى الخلف. يطيعها بعض جسدها، فردود فعل القطط خرافية ولا يضاهيها مخلوق، ولكن الوقت لا يسعفها في سحب ذراعها، خصوصًا والمركبة ليست مخلوقًا بل شيءٌ صنعناه.

تحدث الكارثة: تدوس شاحنة عملاقة يدها فتقطعها. وبينما تتلوى ألمًا تتابع الآلات في دهسها حتى تساويها بالاسفلت.

همم.. سيناريو غير منطقي. لا بأس. المهم هو ألا تجدها في طريقك إلى الدوام غدًا. 

أغلق الأباجورة وأحدّق في السقف طويلًا.

 

 

منذ دخولي الروضة قبل ثمانية وعشرين سنة وأنا أواظب على لبس جزمتي كل صباح. الروضة، المدرسة، الجامعة، الدوام، المقابر، الزواجات، المسجد وبالأخص صلوات الجمعة. علّمني أبي أن هذه أماكن للتهندم ولبس الجزم الرسمية والجوارب البيضاء. هذا رأي أبي، ورأيي من رأيه. أبي مبرمج، وأنا مثله مبرمج. وإن لم أكن من أوائل المبرمجين في السعودية مثله، إلا أنّي أطمح أن يُقال لي “هذا الشبل من ذاك الأسد” يومًا ما. 

لكن اليوم، اليوم فقط، أتبنى الرأي الذي يقول أن بعض الليالي المتعبة تفرض علينا استثناءاتها. وليلتي أمس كانت غريبة.

تخلل ليلتي أمس كثيرٌ من التحديق والتقلّب والتخيل، وقليلٌ من النوم. سهرت أفكّر بالقطة مقطوعة الذراع. هل كان الألم آخر مشاعرها، أم الخوف؟ أحاولت يائسة الهرب إلى الرصيف، أم عادت تلتقط ذراعها بفمها في أمل مقابلة بيطري يخيطها مكانها؟

نامت عيني ولم ينم عقلي. حلمت أحلامًا كثيرة وقصيرة. رأيت قططًا تدهس، رأيت قططًا تهرب، رأيت قططًا تطلب مني إنقاذها. “ميو.. ميو” قالت، ولكني فهمت بمنطق الأحلام قصدها. رأيتني آكل بعضها وأنا أبكي. رأيت رجلًا شريرًا يدوسها. وعندما استيقظت وجدتني أسبح في بركة من العرق بسبب جو الغرفة الرطب المنتن. عرفت من الدفء والرطوبة أن المكيف الذي تكاسل عن عمله هو السبب. رغم أن الرائحة ما زالت كرائحة أمس. وغير هذا، استيقظت فاقدًا سوسو، شعرت بالذنب لأني نسيتها.

ما حدث في الإثنا عشر ساعة الماضية عذرٌ كافٍ بالنسبة لي، لن ألبس حذائًا اليوم. أنتعل شبشبًا مكشوف من الأعلى إلا من خطٍ نحيل يجعله أشبه بزنوبة الحمام رغم سعره الفلكي. لم أكن لألبسه لو لم يدلّني أبي على المتجر ويشيد به.

أنزل متأخرًا على غير عادتي، فأنا أستيقظ يوميًا قبل الدوام بضعف المدة التي يتطلبها وصولي، وقبل الوقت الذي تُفتح فيه البصمة. اتفقت مع العامل أن يترك الباب مفتوحًا فأدخل دون تبصيم، مستقبلًا مديري بابتسامتي اليومية. لا يدفع أفعالي المنطق، بل تدفعها الرغبة بالترقية.

مع فتح باب العمارة تستقبلني أشعة شمسٍ في غير فصلها. لا أرى شيئًا، ألعن كل شيء، أتمتم “الله يلعن كل شيء”. تشع الشمس قريبةٌ وقوية كأنها تُشرِق من فوق حاجبي. أمشي مغمضًا عيني متعثر الخطى أدعو ربي ألا يصادف قطعي للسكة مرور سيارة.

أتوقف فجأة بعدما أسمع صوت غرق قدمي في بركة ماءٍ. وبعد دهسي بلحظة أشم الرائحة. يع. لم أدس ماءً عاديًا بل ماء مجاري. وبعد الرائحة يأتي الإحساس. الماء لزجٌ لسببٍ ما وحوله طين شبه قاسٍ. وبعد الإحساس تأتي الصورة. لم أدس ماءً مطيّن. تُفتح عيني واسعةً.

أكاد أتقيأ. رائحة لحمٍ فاسد. قدمي داخل جسد قطة مفتوحة البطن. ساقي لزجة ودمّي ملوث. أشعر بأمعاء القطة تلتف حول جذعي وتدخل فمي. تصل أحشائها إلى حلقي وتستقر أمعائها في أمعائي. الرائحة ليست منتنة فحسب، بل فيها نفحة ذنب. لا أعرف كم بقت قدمي داخل جسد القطة الميتة، ولكني لم أعد أريدها. أريد بترها. تختفي الشمس. أنظر إلى قدمي المضرجة بالدماء حتى كعبي. أنظر إلى القطة. بطنها مفتوح ووجهها متفاجئ. دودٌ أبيض يتغذى عليها. أتقيأ.

أصعد إلى المنزل. أغسل وجهي وأغير شبشبي وأنطلق إلى العمل. أرجو أن الترقية لم تفتني.

 

 

“وبعدين؟”

ينظر إلي بعينيه الناعستين، لو لم يكن مديري لصرخت في وجهه أو لم أكن لأهتم برأيه، واحدةٌ من الاثنتين. أريد الصراخ: كيف وبعدين!

“كيف وبعدين!”

أصرخ.

“كل يوم أشوفهم مدعسّين، أيش الجديد؟”

“عمرك شفت يد لحالها وباقي الجسم لحاله؟”

“ليس بعد الكفر ذنب”

هاه؟ أفكّر.

“هاه؟”

أقول.

“الحيوان ميت. أيش الفرق ذراعه في جسمه ولا مفصولة؟”

أريد شرح الفرق له. أريد أن أشرح له عبثية الموقف. أريد أن أخبره عن الحالة النفسية لتلك القطة التي وجدت نفسها عاجزةً عن التصرّف. التي وجدت نفسها في عالمٍ يفرض عليها قوانينًا لا تفهمها. فمن وجهة نظرها هذه السيارة ليست إلا مفترسٍ قرر تمزيق يدها فقط لأنه يستطيع. دُهست رغم أن والدها علّمها أنها لو سمعت كلامه سيكون العالم منطقيًا، رغم وعد أخيها الكبير، إن كانت معه ليس عليها أن تهتم بالسيارات المسرعة. أريد أن أشرح له ضئالة المخلوق الصغير أمام المخلوق الكبير. سبقني قبل أن أقول أي شيء وقال بينما ينظر إلى ساعته:

“أبو سطّام يحتاج التاسك قبل 12”

فالتهيت عما أشغلني بمهامي الروتينية.

 

 

مباراة الديربي، أخيرًا.

إن تربيت في بيتٍ يحبها، تملك كرة القدم قدرة خارقة على توليد الحماس بداخلك، حماس مشوّب بالحنين يبعد عنك المشاعر السيئة مؤقتًا. خصوصًا عندما تشاهدها في مقهى شعبي، ويقدّم طلباتك “محمد” وليس باريستا، حتى وأبي لم يعد يشاهد المباريات معي بعد تردّي مستوى فريقنا إلا أن السحر حاضرٌ اليوم.

السماء سوداء مرصّعة بالنجوم المتلألئة، والقمر لا يرضى أن تخطف عنه الأضواء فيشّع هو الآخر. الليلة قمرة. الهواء حيٌ بارد يتجول بهدوء حولنا ويمر من خلالنا. تشعر به أحيانًا يحرّك الخصلة الطويلة في شعرك، كما تشعر به خلف أذنك يداعبها، ويلمزك حفيفه الخفيف أحيانًا بكلامٍ معسول.

وفي صفي ضد فريق الهواء ثوبي الشتوي، معطفي الشتوي، جوارب الصوف، وبخار الشاي. فريقي كامل. يصفّر الحكم وتنطلق المباراة مع أول رشفةٍ للشاي، وتمتلئ الكراسي بقمصان خضرٍ وأخرى صفرٍ وسود.

في الربع ساعة الأخيرة وسط المقهى المكتظ أرى شخصًا شديد الغرابة. رأسه مليء ببقعٍ صلعاء تظهر رأسه اللامع. إحدى حواجبه مفقودة. وفي عينيه نظرةٌ بعيدة كأنه يحدّق في روحك. انتبهت له حينما قفزت قطةٌ بيضاء فوق طاولته، صفعها فطار جسدها إلى حفرةٍ عميقة خلف حاجز المقهى. عندما عاد نظري إلى طاولته رأيته يخرم وجهي بعينيه. فمه نصف مفتوح، رأسه مائلٌ إلى الأسفل، شفتيه رطبتين، ولا يلبس سوى قميص أسود وسروال أخضر وزنوبة.

بسملت، وقرأت المعوذات، وتفلت يساري ثلاثًا، ولكنه لم يختفِ أو يتوقف عن النظر بينما يصفّر الهواء في إذني.

 

أتحيّن فرصتي، وفورما يلتف الغريب إلى الشاشة مع اعتراض الحضور على قرار الحكم، أهرع من مكاني مغادرًا المقهى. غدًا سأشرح لمحمد سبب عدم دفع خمسة ريال الشاي، أو عندما أتأكد من وصولي البيت سالمًا.

المسافة القصيرة بيني وبين المنزل، أشعر بها لا نهائية. لم تسمح الأزقة إلا بمرور سيارةٍ واحدة، أو ثلاث أشخاص مصطفين بجانب بعضهم. في جنح الليل شعرت بظله يحتك بجسدي. لا أراه، ولكنّي أشعر بمكان تحديقه يحترق. أعرف أنه قاتل القطط. وجهه يدينه. تصرفاته الغريبة تدينه. لا يهمني الحكم على الناس من وجوههم؛ قبحه والصلع في رأسه يديناه. الأدلة ضده كثيرة ومنطقية. لمَ يطاردني؟ أنا لست قطة. هل يريد قتلي مثلهم؟ ولكنّي لست عدوه.

لا أجرؤ على النظر خلفي لذا أبقي نظري على البيوت التي يضيئها القمر، تراقصت على جدرانها الظلال بجموح بينما ظهرت طويلة ثابتة على الشارع البرتقالي. انتصبت شعيرات رقبتي حتى توخز جلدي كدبابيس معدنية.

طالما أنه لا يلبس ملابس شتوية في منتصف يناير فهذا يعني أنه شيطان، ومعروفٌ أن الشياطين عندها مميزاتٌ خاصة تمكنها من معرفة مختلف المعلومات، هل يعرف أني أشك أنه قتل قططًا؟

تلامس جسدي حوافر صغيرة باردة، أو نفحة هواء، كذلك الهواء الذي تجلبه السيارات المسرعة. هل سيكون مصيري كمصير…

ألف يمينًا، تغيب أضواء القمر عن البيوت. تتوقف الظلال عن الرقص. لم يبقَ بيني والمنزل إلا خمسين  مترًا. لفةٌ وبضع خطوات فحسب. يقترب مني، يصبح قريبًا جدًا، أسمع صوت كفراتٍ تدور في مكانها بعنف. أشعر برئتينا تتنفس الهواء نفسه. أنا عاجزٌ عن الفهم. لم يريد قتلي، أو خطفي، أو لم لم يفعل أي من هذا حتى الآن. سيمزّق يدي في أي لحظة. أقرر الركض، ولكن جسدي يتجمّد حائرًا فلا أتحرك.

أشعر بشيءٍ باردٍ يلامس مؤخرتي، معدن سيارة. يدفعني بهدوء وحزم. سيدهسني، وحينها تأتي صرخة فرح من المقهى تشجعني على الهرب وتجبّن المركبة خلفي.

لأول مرة في تاريخ الديربي، لا أهتم بمن سجّل الهدف. 

حين وصلت شارع منزلي، لم أجد القطة مفتوحة البطن، ولكن أثر بقعة الدم ما زال على الشارع، بينما هريرة صغيرة تحوم حول آثار الجثة. تذّكرت سوسو. فازت سوسو بجائزة يانصيب وجدتها في إحدى الحلويات، وفي طريقنا إلى استلام هديتها التي كانت لعبة باربي الإسلامية الجديدة، رأت سوسو قطةً توشك على قطع الطريق، ذهبت لتلاعبها، ركّزت القطة على مهمتها وقطعت طريقها. أما أختي الصغيرة… تلك الليلة كانت ليلة قمرة أيضًا.

شعّت السماء كأن القمر الشمس، وعزف الهواء حفيفًا موسيقيًا، ولسببٍ ما قررت أخذ القطة. لن أتحملها طول العمر، ولكنها الليلة ستنام تحت بطانيتي الدافئة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى