قصة

موت قدوة

(الصورة للمصور عبد الرحمن @Al7ammadi__)

 

قبل صباح اليوم، لم أفكر بالأمر من هذه الزاوية قط.

كان يومًا باردًا، لا، كان يومًا مثلجًا. لا تهطل الثلوج على شوارع الرياض، ولكن البيئة كانت خصبة؛ درجة الحرارة تحت الصفر، هواءٌ لافح له صرير، شمس مختبئة في جيب السحب المتكتلة. لم ينقص اللوحة غير رشات الحبيبات البيضاء.

في العادة ينتصب جسدي مع الرنة الأولى للمنبه، استيقظ كل يوم في الساعة ذاتها، ويشمل ذلك أيام الإجازات. في تمام السابعة أكون قد ودعت عالم الأحلام، سواءً كان اليوم أحدًا أو جمعة. ولكن أطرافي المتجمدة تحت اللحاف الثقيل، والنور الكسول القادم من خلف الستارة كأن الشمس المشرقة لتوها على وشك الغروب، ورسالة الإجازة بسبب “سوء الأحوال الجوية” التي صبّحت علي. كل هذه الظروف تكالبت لتغريني بالبقاء محشورًا بين سريري وفراشي.

قيل الكثير عن المجتمع الحديث، والفرد اللاهث خلف أشغاله حد أنه لا يجد وقتًا ليسمع أفكاره أو يدري ما آراءه، أظن أن إدراكي المتأخر لما حدث كان بسبب تأخر قدوم الثلج.

أما أولهم، فهو خالي الصغير أحمد. لخالي روحٌ شبابية، ووسامة مصحوبة بثقة. سأصفه كما كنت أراه طفلًا.

يبدو خالي أحمد دائمًا خفيفًا شفافًا عند جلوسه رفقة الكبار. يأخذ مواضيعهم بجدية، ولكن وجهه في الوقت نفسه محصنٌ من التجاعيد المصاحبة لمثل هذه المواضيع؛ فبينما لا يتحدث أبي إلا عن الديون، والأقارب، والواجب، وبقية الأمور التي أرهقته حتى بدى ككهلٍ حكيم قارع السبعين. يناقش خالي نفس المواضيع بوجهٍ كله نضارة وبشعرٍ فضي كثيف، وفوق هذا يجد في نفسه فسحةً لمناقشة ميزات الآيفون الجديد، وآخر أفلام السينما السعودية، والنساء المتبرجات. خصوصًا النساء، فسحته تتسع لنساء الكون كلهن.

ولا تحول هذه الاهتمامات بين خالي والتوجيب. فهو “راعي واجب” في المناسبات. لا يفوّت فرصة للمشاركة المادية والمالية والمعنوية. أول من يضع السفرة وأول من يرفعها، وآخر من يجلس للأكل وأحيانًا يصارعه المضيف، حرفيًا، ليجلس.

أيضًا، لا يُضحِك أمي مثله. تغص بكركرتها في كل مرة يزورنا، بل لا أرى وجه أمي المنبسط المنير ذاك إلا حينما يباركنا بزيارة مفاجئة.

ولكن، جاء موت قدوتي الأولى على يدي الزمن، إذ ما عدت الطفل الفرح لرؤية قريبٍ “خطير” يُضحِك أمي ويُسلّي أبي في كل زيارة. ولم يعد على مقاسي ثوب المراهق الذي تُثيره رؤية هذا المتمرد الذي يشرب سيجارته خلف سيارته خلسة ويتحدث عن النساء برمزيات فاضحة.

أصبحت رجلًا يرى هذا الشخص الذي اقترب من أربعيناته، يستهزئ استهزاءً مبطنًا بأبي وكل الكبار بعدم أخذ ما يقولونه بجدية. فهو يقول لأبي الغافل نفس كلمات المواساة كل مرة مع تغيير ترتيبها، ويبدّل رأيه في نفس الموضوع كلما اشتهى. ثم يفشي السر الذي أستأمنه عليه أبي فأسمعه في مجالسٍ ثانية بسخريةٍ دون التصريح بأسماء. ويعود ليفعل الأمر ذاته عندما يجلس رفقة أبي فينقل له سوالف المجالس الأخرى السرية.

ولن أنكر أن محادثتنا التي تلت قبولي لوظيفة في مدينةٍ بعيدة كان لها دورٌ كبير في ثقب المنطاد الكبير الذي كانه خالي أحمد.

في مرارةٍ غريبة مناقضة لخفته، حدثني عن محطة الندم التي تنتظرني حين تعبر السنين وأرى والداي وقد وصلا إلى آخر عمريهما. وأن أعظم الفرص كانت متاحةً أمامه، ولكنه آثر البقاء رفقة أمه. فلا شيء في الدنيا أهم من بر الوالدين. رغم أن، حسب كلام أمي، الوظيفة التي رفضها لم تكن غير وظيفة في شركة صغيرة براتبٍ هزيل.

عمتي نسمة كانت قدوتي الثانية، وهي ماتت في مرحلة “الرجولة” أيضًا. إلا أن فرقها عن خالي أحمد هو أنها تدري، أو تحس، أنها قدوة دون إدراكها أن أيام اقتدائي بها قد ولّت.

كانت نسمة متمردة الطباع، وحازمة الرأي مع الجميع. كثيرة الضحك، وحلوة المعشر معي. أحببتها حد أني أعد الأيام المتبقية لقدوم الإجازة متشوقًا لرؤيتها. وأحببتني حد أنها بعد نهاية إحدى الإجازات طلبت من أمي إحدى قمصاني لتبقى “ريحتي” قربها، تصبرها حتى تراني ثانيةً.

كنت دائم الحديث معها، وعكس أمي، لم تسكتني قط. فقط تستمع بصمت، وأحيانًا تطلق ضحكةً عالية تفاعلًا مع شيءٍ قلته. ليس بالضرورة أن يكون نكتة. وحتى لم تصرخ علي حينما أخبرها بموضوع رغبتي بأن أتوظف كرسام حينما أكبر.

أما سبب موتها، فما زال طازجًا دافئًا، كجثة فارقت الحياة قبل دقيقتين، لم يبرد في مخيلتي. أستطيع استحضار حدوثه بدل حكيه.

هذا ما حصل:

في يومٍ خريفي نادر، كحلمٍ أقرب للرؤى. جلست متربعًا فوق أريكة جدتي الخضراء المهترئة. جاءت الإجازة التي لا يهمني قدومها، فأنا للأسف موظف، بقدر ما تهمني من جاءت به. ترتسم علي بسمة خفيفة لا يُلاحظها من لا يتفرس وجهي. أنتظر عمتي نسمة التي وصلت لتوها. تدخل غرفة المعيشة وتقول بصوتها الجهوري:

-ما شاء الله، لمين التبسم يا أخويا؟

-أتبسم يا أختي وما له؟ يعني لو أصيح ترضين؟

تفتح ذراعيها فأضمها. لو أغمضت عيني لأحسست بأني أضم أختي الصغيرة. نسمة كزجاجة العطر، في الحجم والرائحة. تسألني عن حالي، وأسألها عن حالها. ترد بجملتها الشهيرة:

-الحال ماش، كالعادة يعني. التعليم كل ماله يصير أخس وأخس، باقي شوية ويطلبون منّا نلقّم الطلاب فطورهم

لما انتهت من التشكي جلست أمامي، بجلستها الشهيرة “ركبة ونصف”. تحدثني عن نفس الأشياء. تتحدث أكثر مما تسمع. وتسمع فقط حينما يتعلق الموضوع بها. بدا جسدها الصغير هزيلًا. ووجهها ذوى حتى كاد لحمه يسقط على صدرها. وفي ركني فمها خطان يُشيران إلى الأسفل في تكشيرة غريبة. جلد رقبتها الزائد يشبه قفلة قناعٍ رخيص. تتحدث في كل شيء. وعندما تسكت ترى في عينيها تأهب الأطفال للحديث فور مجيء دورهم دون استيعاب ما قيل. وعندما أخبرتها بوظيفتي، التي كنت لا أنفك عن ذكرها منذ كنت صغيرًا، رمتني بنظرة لن أنساها وقالت:

-كنت أحسبك ما وجدت وظيفة، طلعت مخرّب نفسك بنفسك بهذه المغامرات اللي ما لها معنى؟

قالتها تضحك. رمتها رميًا في غير اكتراث. ثم سكنت كالميتة للأبد، أو هكذا تراوى لي. فبعد تلك العينين الجاحظتين، والنظرة الاستنكارية الممزوجة بالسخرية التي اعتقدت أنها لن تدحجني بها ما حييت أراها الآن وقد سكنت إلى الأبد.

ذكرتني أمي بتحذيراتها الكثيرة من إجلالي لها وعشمي الكبير فيها. إلا أنها ليست إلا امرأة عاديةً. تعاملني كما تعامل الجميع. قد لا تصرخ علي، ولكن استساغتها لي ليس حبًا أكثر منه تعلقًا بالطفل الذي كنته.

ولكن الثوب؟ هل تحتفظ بثيابٍ لجميع الأطفال؟ والحضن؟ هل تحتضن جميع أبناء أخوتها؟ والجرح؟ هل تجرحهم جميعًا في سبيل قول رأيها الثوري شديد الأهمية؟

أما قدوتي الثالثة فكان أبي، وسبب موته اكتشافي أنه مجرد رجل.

اليوم استوعبت موت قدوات طفولتي، الثلاثة كلهم. لا أعرف موعد موت أيٍ منهم على وجه الدقة، ولكن اليوم أصحبت مدرك لحدوثه.

أحدٌ منهم لم يتغير، لكن لما مات الطفل الصغير داخلي، ماتوا هم.

أسحب أطرافي المرتعشة من تحت البطانية الثقيلة. أمشي في خطىً بطيئة إلى الحمام. أمر على النافذة أولًا. بداخلي شيءٌ صغير حسبته ميتًا يرجو أن يرى الشوارع مكسيةً بالثلوج، هو نفس الشيء الذي يشتاق لأهلي البعيدين. عوضًا عن الثلج تستقبلني لسعة هواء كادت تسيل الدم من وجنتي. أُغلِق النافذة بسرعة. خائبًا. ومن ثم في طريقي إلى الحمام تصعقني فكرة:

هل يراني أحدٌ من أطفال عائلتي الآن كما كنت أرى قدواتي؟ وهل يعني هذا أنني سأموت في عينيه يومًا فقط لأنه تقدم في العمر وأصبح يراني حقًا؟

‫3 تعليقات

  1. ما شاء الله، قصة خفيفة لطيفة وجميلة جداً، واسلوبك ما شاء الله رهيب 👏🏻
    سلمت أناملك على ما كتبت، جميلة جميلة جميلة

  2. رائع…
    مثلت واقعي مع واقع الكثيرين بكلاماتك
    شعور غريب أن تجد أن احد قد عاش ما عشته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى