قصة

جريمة ملك البرجر

أخرج الرجل سكينه بلا وعيٍ وطعن هادي بعشوائية. في يده وكتفه وصدره وعينه وطعن الهواء والطاولة وشطيرة البرجر والبيبسي الذي تصبب في المكان..

 

خبر.

 

بعد محاولات لإخفاء شعار المطعم خوفًا من قضايا تشهير لم يستشيروا فيها أي قانوني، وبعد حذف المقدمة بسبب ظهور بقعة دماء خلف المذيع؛ استطاعت قناة أخبار القويعية التابعة لكلية الصحافة بجامعة شقراء تصوير فيديو توثيق الجريمة التي صعقت سكان المنطقة قبل ساعات قليلة.

قلّب المذيع الواقف أمام الكاميرا عينيه بين التقرير يقرأ منه والمطعم الذي لم يخطر ببال عمّاله أن يومهم سيسير بهذه الطريقة. إطلاقًا.

“السلام عليكم ورحمة الله،

أنا سالم السلالي، وخلف الكاميرا أحمد الأركش، وكاتب التقرير رائد الرائي. اليوم مساءً، وبالتحديد الساعة التاسعة ليلًا، حصلت حادثة طعن بسلاح حاد.. سكين.

حتى الآن دوافع المجرم مجهولة، ولكن تم التعرف على هويته من قبل السلطات المعنية. غالبًا سيُلقى القبض عليه قبل دخوله الرياض، وقد صرّح مصدر مسؤول “ما بياصل ديراب إلا وهم طارحينه”

المغدور -رحمه الله- اسمه هادي الرايس بلغ من العمر خمسة وعشرين عامًا، وجد ميتًا في سيارته المقلوبة وتصدح منها أغـ…”

رفع المخرج جذعه من خلف الكاميرا وأشار إلى المذيع بتجاوز التفاصيل، فسكت الأخير للحظة غير فاهم “يعني أش-” ثم تجاوز مسرعًا متوترًا إلى الموضوع التالي.

“ط- طيّب..

وأما المجرم فرجلٌ في نهاية الثلاثينات، صاحب سوابق وأدخِل المصحة النفسية عدة مرات. تم الاعتقاد أنه غير سوي. أي أن هنالك مشكلة في عقله. رحم الله الميت، وأدخله فسيح جناته. كانت معكم قناة أخبار القويعية بإشراف الدكتور عبد المؤمن الربع، في أمان الله”

نظر المذيع إلى الكاميرا منتظرًا إشارة الانتهاء، وعندما انطفأت الأضواء الساطعة وارتاحت شبكية عينيه زفر زفرة طويلة.

“هي إن شاء الله يعطينا الدرجة كاملة!”

“درجة كاملة من عبد المؤمن؟ انترتيكر؟ بكاميرتك هذه؟ على مشروع نهاية السنة؟ والله تعقب ما تشمها”

“والله إنّا مبدعين ونستاهل ياخي”

“وأنت وش تم الاعتقاد ياخوي ليه ما تقول يُعتقد؟!”

“قل لخويك الكاتب.. نجيب محفوظ العرب”

“نجيب محفوظ عربي!”

ودخل الثلاثة للمطعم لطلب وجبة تعينهم على ساعة الطريق الفاصلة بينهم وبين محافظتهم الأثيرة.

سوء فهم.

 

رغم غناء عبادي الجوهر الشجي سيطر صوت الأفكار على رأس هادي الرايس.

ليه ما أحد يقدّر كل هذا الجمال؟

 

رأى هادي الطريق بأعينٍ مسبحةٍ متأملة رغم مقعد السيارة الرديء الذي كسر ظهره. أذهله سيره في خطٍ مستقيم لساعات، كل مرةٍ يسافر فيها يشعر بأنه يمر على تاريخ بشري كامل. خصوصًا حينما يسافر ليلًا وتشع النجوم ويزيد منسوب الغموض. فكّر بالإرث والذكريات التي تحملها هذه الأرض. تخيّل معارك وأعراس، بكاء وضحك، وأشخاصًا نسيهم التاريخ تمنى لو يستطيع استشعار وجودهم.

فكّر بشاهدٍ على الإرث والذكريات التي حدثت فوق الأرض، سرعان ما أنتبه للقمر، ففكّر بينما يراقب حافته.

ودّي أتفرج على العالم كله وأنا مدلّي رجولي من فوقه!

 

أشاح له وانيت أبيض بأضوائه العالية ليبتعد عن المسار الأيسر، فالمسار الأيسر ليس مسار التأملات. خرج من أفكاره وعاد إلى العالم ثم ابتعد عن المسار. عملية أخذت بعض الوقت. رمقه السائق بتحدٍ، فقابل التحدي بآخر، ولكن سرعان ما اتسعت المسافة بين السيارتين وعاد إلى المسار ثم إلى أفكاره.

كم عدد الناس اللي ماتوا موت طبيعي في خطوط السفر؟ وفي أي مقبرة يدفنون؟ وهل يُحسبوا مع وفيات مدينتهم الأصلية أو مع وفيات أقرب قرية؟

أحزنه خاطره فعاد يتأمل السماء. طالما أحب القمر ناقصًا وأزعجه منظر اكتماله؛ فكيف يجرؤ ادعاء الكمال من يستمد نوره من مصدرٍ خارجي؟ تمنى لو يجد أحدًا يناقشه هذه الأفكار العجيبة.

فورما عاد مستوى نظر عينيه للطريق ظهر الوانيت الأبيض أمامه من العدم. احتك الصدّام بالصدّام.

هل صدمته؟ هل أوقف؟
لا.. إذا هو ما وقّف ما راح أوقف.

 

لم يقف سائق الوانيت فتشجّع هادي ظانًا أنه توهم الحادث. أشار إليه بالضوء العالي ليبتعد عن الطريق، ولكن السيارة أبطأت مع كل مرةٍ يفتح عليه النور. زمّر ثلاث مرات سريعة قبل أن يترك الآخر المسار الأيسر، وحينما أفسح له المجال فعل ذلك تحت عيون كاميرا تصوير الهواتف المنتشرة على الخط.

يا ويلي، هل بيصوروه عشان غيّر مساره فجأة…

 

وقبل اكتمال أفكاره أعماه وميض فلاش ساهر. عجز عن معرفة إلى من هذا الوميض موجه. لا إراديًا انتفض رافعًا ذراعه لحماية عينيه فاحتكت مفاصل يده بحاجبه الأيمن. خلال ثوانٍ صب الدم من حاجبه فوق قميصه الأبيض.

بينما يمسح هادي حاجبه، حاذاه الوانيت. أنتبه إلى عيون السائق الغريب الذي لم يرَ مثله رغم قضاءه عمرًا في السفر بالسيارة. أشعرته النظرات المستعرة بالخطر المحدق. أراد كما عوّده والده أن “يهدّي الوضع” خصوصًا وهو في خط سفرٍ غامض لا يعرف عقلية من يشاركه إياه.

رفع ذراعيه إلى السماء مستفسرًا، فشرح الرجل مشكلته بينما انشغل عنه هادي بالدماء التي تدفقت عنيفة فجأة. وعندما أعاد النظر كان الرجل ما زال ينظر إليه. وخزه حاجبه ومالت سيارته يسار المسار الأيسر حتى كاد يرتطم بالحاجز بينما ردد عبادي.

“أخاف تطري لك ظروف..

وأخاف حبي تجهله”

رفع يده اليمنى وهزها مشيرًا له بالإشارة المعروفة في السعودية بـ “روّح بس!”

تلفّظ الرجل في الوانيت بشيء لم ينتبه إليه، فهو داس البنزين وأنطلق بعيدًا عنه. وما هي إلا دقائق حتى جفت دماء جرحه، وقرقرت بطنه، ونسي الوانيت وصاحبه، وحينها برز أمامه مطعم مشهور بشعارٍ قديم في محطة شبه مهجورة؛ كأنه فرعٌ أثري نسيه ملّاك المطعم.

قد اليوم كله غريب، ليه ما أجربه؟

 

الجريمة.

 

جلَس هادي فوق الكرسي الأحمر يراقب وجبته بغبطة.

على الطاولة البيضاء رأى انعكاس لونٍ أحمر فوق حاجبه الأيمن، وضع يده فشعر بالدماء متخثرة. تذكّر معلومةً أراحته: أي لمسة عارضة أو ضربة بسيطة قد تجرح الحاجب، إذن إحساس الغثيان المفاجئ الذي أدار رأسه ليس إلا حالة مؤقتة.

بسيطة لا تكبر المواضيع.

 

آخر محطة مر بها كانت قبل خمسين كيلو والمحطة القادمة تبعد ثلاثين كيلو. مكان مقطوع. تساءل عن المواقف الغريبة التي وجد عمّال مطاعم الخط السريع نفسهم فيها، وأنواع المخلوقات التي مرّت عليهم. نظر إلى أعينهم.

 هل شهدتم جريمةً من قبل؟ 
هل سبق أن سُرِق المطعم مثل أفلام الأكشن الأمريكية؟

 

وجد في أعينهم وحشة غريبة.

كيف تحاربونها، أهلكم قراب؟

 

لا يشبه المطعم بقية الفروع، فرغم أنه جزء من سلسلة مطاعم مشهورة إلا أن كل تفاصيله مختلفة. لم يُجدد منذ عشرات السنين، وقائمة الطعام عليها صورٌ قديمة سيئة التصميم، وهناك رائحة قديمة جدًا كمستودع مهجور، والأغاني الهندية صدحت في المكان معلنةً ألا مديرًا مصريًا سيمر من هنا ليدقق في تفاصيل سير العمل.

كأن المطعم ذكرى تتلاشى لمصاب بالزهايمر!

 

امتدت الغرابة إلى طعامه، فبدى لون الكاتشب غير مألوف حينما فض البلاستيك، لسببٍ ما بدى بلون الدم الجاف على قميصه الأبيض. ثم رفع رأسه ورأى غرابة حقيقية.

دخل الرجل الذي تجاوزه في الطريق، متلثمًا بغترته المخططة بالأبيض والأسود، رافعًا يديه إلى السماء متسائلًا ومتهمًا. هذه المرة شعر هادي بضرورة ضبط أعصابه بعد أول حادثةٍ بينهما. أراد لأولى كلماته أن تبدو أقرب إلى التساؤل البريء. وخزه حاجبه بينما سأل.

“خير؟”

لم يقصد “خير!” بل أرادها أن تكون “إن شاء الله خير؟” ولكن الرجل سمع الأولى فأدخل يده في جيبه مفتشًا عن شيءٍ ما.

شعر هادي بفجاجة نبرته فأراد إصلاحها “أوه عرفتك، ترى لما أشرت لك قبل شوية في الخـ…” واختفى حرف الطاء مثلما اختفى الصوت واختفت بقية حواسه. لم يدرِ ما حدث، كان جالسًا فوق الكرسي، ثم بغتةً أصبح مستلقيًا على أرض المطعم الباردة.

لكن الحواس مضللة، وما حدث أوضح.

عندما سمع الرجل “خير!” أدخل يده في جيبه مفتشًا عن شيءٍ ينفس عن غضبه. أخرجه وحرّكه بعشوائية. لم يعرف ماذا حدث بالضبط، كل ما يتذكره هو “خير!” ثم حدوث شيء، والوعي بنفسه في سيارته هاربًا خائفًا.

لكن الحواس مضللة، وما حدث أوضح.

عندما دخل الرجل المطعم، سمع عقله صوتين الأول أخبره “أعطي الفتى محاضرة عن الأدب والأخلاق.. اعتبره أبنك” أما الثاني رد “أبنك؟ شف لحيته هذا بعمرك، خوفه بيدك ولسانك، طلّع اللي بالي بالك وعلمه درس عشان يتوب!”

توقّع اعتذارًا ورفع أيادٍ ومعرفة خطأ وإشارات تحول بينه وبين الخيار الأقل فضيلة. الخيار السوداوي الذي يبحث عن مخرجٍ منه. لكن عندما سمع تلك الكلمة من ثلاث حروف غاص إلى مكانٍ أعمق لا يُسمح لعقله دخوله. عادت الظلمة الحالكة لتسيطر على جسده. خطرت بباله فكرة.

من سنين ما دخلت المصحة، لا تخرّبها.

 

أراد الإذعان للتحذير ولكنه تلاشى واختفى بسرعة. وسمح للآخر التحكّم به.

أخرج الرجل سكينه بلا وعيٍ وطعن هادي بعشوائية. في يده وكتفه وصدره وعينه وطعن الهواء والطاولة وشطيرة البرجر والبيبسي الذي تصبب في المكان. مع الطعنة العاشرة أدرك بغموض أنه قام بشيءٍ محظور، وزال إحساس التفريغ المؤقت المريح.

شعر بالراحة وبأنه ارتكب جريمةً كبرى.

أما الفتى، فلم يدرِ من هذا كله إلا إحساسٌ بالاحتراق سرى في جسده، في ستة مواضع بالتحديد، أشدها إيلامًا عينه اليمنى. يرن في رأسه صوتٌ لا يدري ما هو بالضبط، كان صوت الجرس المعلق في الباب الذي رن مع هروب الرجل.

وضع يده مكان الحرق في عينه ومشى يعرج إلى سيارته تاركًا خلفه أثرًا معوجًا من الدماء. ركب سيارته وانطلق في طريقه على أمل أن هذه الحادثة بسيطة مثل مئات الحوادث السابقة. أخبره عقله.

تضرب قدمك في طرف الطاولة، بسيطة.
تصاب بالسخونة ليلة العيد، بسيطة.
يطعنك رجلٌ غريب في خط سفر، بسيطة.

 

ولكن الليل أصبح معتمًا واختفى القمر، والأرض مادت حتى اتصلت بالسماء. وبدأ يسمع أغنية لم تشتغل إلا في رأسه.

“يا شوق أنا قلبي لهوف

على الليالي المقبلة…”

لم يبحث عن معنى في الكلمات، ولكنها جلبت له بهجةً غريبة.

رأى شهابًا ظنه حدثٌ خارق طالما تخيّله.

يا الله أخيرًا وصلوا الفضائيين للأرض!

 

تجاوزته سيارة سوداء بإطارات سوداء ظنه إنجاز علمي.

يا الله أخيرًا السيارات تطير!

 

ارتطمت حشرات طرق السفر الطائرة بزجاج سيارته فظن أن الفضائيين سيأخذونه إلى مكانٍ أكثر سحرًا.

يا الله أخيرًا راح أعيش شيء أمتع من الحياة!

 

كان اقتراب هادي من الموت عدسةً أرته الحياة بالسحر الذي تمناه طول عمره.

سالت الدماء بغزارة من الثقوب في جسده، وأفرز العرق بغزارةٍ أكبر، أنزل يده عن عينه المطعونة ليحكم قبضته على المقود. سمع صوتًا كفتح غطاء علبة حلويات حينما قفزت عينه لتسقط بين قدميه.

“لا. لا. تعالي. أرجعي” أنزل رأسه ليلتقط عينيه، فمالت سيارته التي أخبره والده بأن عليه تعديل انحراف عجلاتها حتى ارتطمت بالحاجز الحديدي بسرعة تتجاوز المئة، فتقلّبت عدة قلبات ثم ثبتت على وجهها أخيرًا.

لو مررت بجانب السيارة المقلوبة لسمعت صوت أنّاتٍ وسعال إنسان في آخر لحظات حياته. أما لو استطعت الدخول لرأس هادي ورأيت آخر لحظاته كما رآها لسمعت غناءً آتيًا من مصدرٍ مجهول وسط السحب.

“الله أكبر يالهنوف

دمي لكم من حلله”

ولرأيت آلاف المخلوقات الفضائية تغزو الأرض، وشعرت أنك سافرت إلى بعدٍ آخر، كوكبٍ آخر.

‫3 تعليقات

  1. منذ سنة لم اقرأ نصوص قصص لانغماسي بالنصوص والافلام. قد نسيت المتعة واللذة في التصور بقراءة القصص بعيدًا عن تصور تصوير النصوص. استمتعت وشعرت بأحاسيس متعددة منها الرهبة والترقب والجزع. ابدعت أ. محمد القصة محبوكة واجتاحني شعور بالشوق للعودة لقراءة القصص فهي فعلًا عوالم ممتعة تدخل فيها ولاتخرج حتى تنهيها. طول القصة مريح وملائم، تقسيم اجزائها موزون ليس بفجائي وغير مترابط، والأوصاف المستخدمة جعلتني التقط لقطات للشاشة من شدة أعجابي بها. استمر استمر👏🏼

  2. اعجبتني صراحة🤌🏻
    اكثر ما يعجبني في كتابات هذا الكاتب هو “الأماكن”
    المكان الذي تدور فيه أحداث القصة هو شخصية بحد ذاته فهو يشكل خلفية مهمة للأحداث
    كل التوفيق!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى