آخر يوم في حياة الموظف عبد الله
ربما الحسرة على انفجاره غير المكتمل هي ما أدت بطريقة أو بأخرى إلى ما فعله في ذلك الصباح.

قبل 3 سنوات
«لا» خرج الرفض بهدوءٍ شديد. لم يُصحب بأي انفعالات معتادة.
لا تشنّج، لا يأس، لا خوف يصطحب رفض أمر شخصٍ أعلى سلطةً. ضحِك مديره، الذي أصبح زميله ثم صديقه خلال السنة التي مرّت لهما في القسم نفسه، وعندما لم تُتبع الضحكة برد قال ببلادة «ما فهمت؟» ارتسم على وجهه تعبير حانق؛ لعلّها نكتة استمرت بسوء تقدير من مرؤوسه.
ذلك كان ظنه.
«أكره منصبك، وشغلنا، والمدير اللي بتسلّمه شغلي، ويسلمه للعميل اللي لو عجبه، بنركض نبيع له أشياء زيادة ولو زعل بيهزأ مديرك، اللي بيفرّغ فيك…» لم تسعفه رئتيه على إكمال جملته. شعر أنه وقف عند إشارة ما زالت برتقالية لم تصبح حمراء.
ربما الحسرة على انفجاره غير المكتمل هي ما أدت بطريقة أو بأخرى إلى ما فعله في ذلك الصباح.
نفس اليوم – قبل الحادثة بساعات
صدح مسجّل السيارة «آه يا حلو يا مسلّيني…» إلا أن الحلو لم يتسلَّ، بل اشتعل غضبًا. الغضب هو الشيء الوحيد الذي حماه من إغلاق عينيه والارتطام. أكمل تسعة أشهر في هذا المشروع السرمدي، طال شعره في الاتجاهين؛ نحو السماء والأرض كأن رأسه تنتزعه مملكتان.
أغلق المسجّل. «اليوم أسمع أفكاري» تمتم لنفسه بغضب. على خديه حمرةٌ ظاهرة، ومن رقبته إلى صدره رقعةٌ حمراء سببتها شمسنا القاسية وإن كنّا في مايو.
رنّ الهاتف، أغلق في وجه أمه.
رنّ الهاتف، تجاهل المكالمة.
«حمار» شتم نفسه. لم يحصل جديد في عمله. كل الأمور كما هي. حياةٌ تصرف على دوامٍ أسبوعي، ومتنفسٌ بقدر نفسٍ في نهاية الأسبوع. أما هذا الأسبوع فحتى نَفَسه حُرِم منه بوصله الأحد بالأحد لإنهاء إحدى التصاميم المعقّدة.
«ليه خليتم التصميم موشن جرافيك؟» قال بهدوء ثم انفلت داخل عقله شيءٌ لم يستطع التحكّم فيه؛ شعر به كعطسة يجب أن تخرج، صرخ «ليه يا كلاب! ليه يا ملاعين!» لم يرد عليه أحد فهو وحده في سيارته، ولكنه اضطر إلى الإدعاء بأنه مشغول بالطريق عندما التفت ليجد فتاةً تنظر إليه بينما تتمايل ضاحكة على أغنية لا يسمعها.
ذكّرته الفتاة بتغريد، زميلته التي كوّمت أخطائها واستخدمتها للصعود إلى أعلى المناصب في الشركة. «يا الله يا ربي ليه ما ولدت في نفس مدينة أبو خالد؟» لكن لم يُربطه بمدير الشركة أي رابط.
«شايف كيف.. هي وتغريد معاهن مارسيدس، وأقعد أنت أكرف زي الحمار ليل نهار واركب معدن مصدي داخله كراسي أفراح» شعر بالطريق مزدحمًا أكثر من العادة. شعورٌ خاطئ. «أنن تقريد.. أنن.. انقلع بس» كانت تلك أفكاره المزدحمة. انحشرت فكرة راعية المرسيدس المقتدرة مع بقية الأفكار.
ولأن المعدن الصدئ لا يستحق موقفًا، أوقف مركبته بجانب صندوق القمامة الكبيرة. أخرج تمثال العنقاء الذي اقتناه حينما قرر الاستقالة من هذه الشركة، يرمز المخلوق الأسطوري لشيء لم يعد يرغب بتذكره. أخذ العنقاء معه ورماها في القمامة.
في رحلة صعوده إلى الطابق الخامس راجع إيميلاتٍ وتغريداتٍ وغيرهما، ومع مرور الثواني تنامى داخله شيءٌ شديد الدقة شديد الحدة لا يستطيع أن يسميه، ولكنه يشعر به بوضوح، ازداد هذا الشيء حينما ارتطم كتفه بصندوق الحريق الأحمر المعدني في الممر.
وصل قبل مديره فأراد إكمال محاضرة حول إحدى فصائل القرود الأفريقية. غاص في تفاصيل التطوّر الغريبة للفصيلة؛ إذ يفنى الأفراد الذين خفتت همتهم ولم يعد الطعام يشكّل لهم دافعًا كافيًا، لكن طريقة موتهم ليست عبر الموت جوعًا، ولكن إخوتهم من الفصيلة نفسها يأكلونهم أحياءً…
«يا قرد»
التفت ليفاجأ بمديره خلفه، كان مرتديًا قناع الصديق. ولكنه يعرف نتيجة رد الشتيمة بأخرى، فآثر الابتسامة على أن يراه يبدّل بقناع المدير قناع الصديق كي يعيد السيطرة على الأمور. يجيد مديره جميع الألعاب التي تضمن عبوره تفاتيش الموارد البشرية الصارمة.
«طيب ورب الكعبة ما فيه شيء يستاهل مقاطعتك، ولكن لازم نسلّم الملف للعميل» الأيادي المفتوحة والكلام المتناقض لم يؤثرا فيه؛ لو رفض وأكمل محاضرته.. يعرف الوجه الذي سيظهر حينها.
لم يرد عليه؛ كان ينظر إلى النتوء بجانب أنفه؛ حينما كان مديره طفلًا جُرِح، وبدل التئام طبيعي، جسده الهلع أفرط بإنتاج الجلد ليتأكد من إخفاء الجرح عن المدراء التنفيذيين والعملاء الذين يبحثون عن سببٍ كي لا يثقون به.
«خلّصته ولا لا؟» خلف ابتسامته اللائقة بلحية مرسومة بدقة ارتعشت شفته السفلية. يتغيّر صوته، تتوسّع عيناه، يحاول الاتكاء على سنينه في الإدارة، وكتاب حياة في الإدارة، وحلقات بودكاست الإدارة «لا تقول لي ما خلصته؟» يقول بنبرةٍ تفشل في إخفاء حنقها وقلقها.
لكنه أنهى التصميم، بل هو راضٍ عنه أشد الرضا، ولم يصمم في حياته شيئًا بهذه الجودة. ما أنجزه كان فنًا، لم يكن مهمة. درجة اللون الأخضر التي أختارها، وتقاطعها مع اللون الكريمي، والكلام باللون القرمزي، ناهيك عن تحريك الصور التي جاءت سلسةً كأن الفيديو جزء من فيلمٍ سينمائي ميزانيته ملايين الريالات، لا من موظفٍ يوميته لن تجلب له مرسيدس.
أنهاه على أكمل وجه، ولكنه قرر الآن أنه لن يسلمه.
اتسعت حدود شفتيه. برزت عظام خداه الذابلتان. «إلا.. خلصته». ضحك مديره بعدما عاد ليصبح صديقه. «عبد الله روّعتني الله يقلعك» حتى هذه الدعوة لا يستطيع الرد عليها. صفع كتفه وقال «أرسل لي الملف واتس بحوّله لأبو خالد».
«لا»
بعد رفضه، وجملته التي لم يرضَ عن طريقة ختامه لها. شعر برغبةٍ كبيرة بأن يفعل شيئًا آخر. خصوصًا وأن مديره، ملك الكياسة، ضحك ضحكة طويلة قبل أن يخبره. «أعرف حركاتك هذه. ووالله ما أحد يقدر يستغني عنك في المكان ذا كله، أنت هنا أهم من تغريد ومنّي ورب الكعبة…» ارتخت ملامح عبد الله بعد انقباض، وارتفعت حواجبه وزُمت شفاهه. صوت مديره المشروخ، وعيناه المليئة بعروق الدم التي تفسد بياضها.. كل هذه التفاصيل كانت حقيقيةً جدًا.
أكمل صديقه «لحظة عبد الله، عندي مكالمة بخلصها وأرجع لك وبخرج الجنان ذا من راسك»
أراد الاستنجاد به «يا…»
«هلا طال عمرك» لكن مديره رد على المكالمة وأغلق باب الغرفة الفردية على نفسه بعدما غمز إلى عبد الله وطلب منه الانتظار. كان لمديره لسانًا معسولًا وعقلًا يجيد قراءة الأشخاص، إلا أن الخطأ من طباع البشر، ولو قدّر مديره أهمية المحادثتين جيدًا، لما ترك عبد الله ولأغرق النار في صدره مثل ما فعل عشرات المرات قبلًا، ولم يكن ما حدث ليحدث.
أما عبد الله، ففكر بأن النافذة ضيقة، وعليه التصرّف بسرعة.
نفس اليوم – الحادث
لا يتطلب الأمر مجهودًا ضخمًا للتسبب بالذعر لأُناسٍ في مكان عمل. من اعتاد الجلوس على كرسيٍ ليس من التهذيب أن يُعيد ظهره إلى الخلف، سيصيبه حرجٌ شديد من جلوس أحدهم على الأرض. ومن اعتاد رؤية المفردات الرسمية الحذرة تمشي بكياسة في المكان، سيصيبه الهلع إن رأى كلماتً شوارعية تختلط بها.
نهض عبد الله عن كرسيه، خرج من قسمه، وقف في أكثر قسمٍ مكتظ بالموظفين، نظر في أعينهم، ألقى شتائمًا عشوائية، ثم جال بنظره بحثًا عن ضحية بذاتها، ولكن تغريد كانت في مكانٍ آخر. فنظر إلى موظفٍ غير مصدق وقال شتيمته. تطاير الرذاذ من فمه وصحب كلامه بإشارات من يده وسط ذهول الجميع.
توجّه إلى مكتب الاجتماعات حيث أبو خالد جلس رفقة تغريد وموظفين آخرين. فتح الباب، وصعد فوق الطاولة فاختفت الكياسة والابتسامات المستنكرة.
«عبد الله وش فيك مجنون؟». مشى فوق الأوراق واللابتوبات وصندوق آبل الفضي الذي لم يعرف يومًا سبب وجوده، انتزع التلفاز الكبير من الجدار، وفي وسط الهلع نُودي مدير عبد الله، ولكنه جاء متأخرًا، فعبد الله انتهى من غرفة الاجتماعات بعدما ألقى بالتلفاز من النافذة المطلة على المواقف.
عاد إلى الصندوق الأحمر المحمي بطبقة زجاجية في الممر. لكمه، وضغط الزر فشمل الهلع البشر والحجر. سال خطٌ أحمر رفيع على يده اليمنى، كانت شظية زجاجية محشورةٌ عميقًا بين عظمتي السبابة والوسطى. حاول إخراجها فسرت كهرباء في عموده الفقري، حينها خمّن أن رأس الزجاجة البارز من الجرح بين أصبعيه ليس إلا جزءً صغيرًا من عمودٍ أطول مغروس في خلاياه العصبية.
مشى داخلًا إلى مكتبه. «أح. أح. أح» ردد بينما يرفع سبابته المتشنجة ليفتح جهازه. وبطبعاتٍ حمراء لوّثت لوحة المفاتيح والشاشة وبعد أنّات عديدة استطاع الوصول إلى تصميم الموشن جرافيك ومن ثم حذفه.
هكذا أتم عبد الله آخر تاسك له في الشركة.
اليوم
ثلاث سنواتٍ مرّت. لم يبقَ من تلك الذكرى إلا يده التي فقد التحكم فيها جزئيًا، ودمية العنقاء التي استعادها من القمامة. اختار العودة إلى دياره وبناء غرفة واحدة بمبلغٍ بسيط. لم يعش وحده، ولكنه اختار أبعد بيتٍ ممكن عن البشر، وأبقى التواصل مع أبناء عمومته شحيحًا.
أشعة ذهبية على بشرته التي اكتسبت لونًا أغمق، هواءٌ نقي داخل رئته، خيوطٌ خفية تربطه بالأرض تحته، روح جدّه تحفه، وحمارٌ هانئ البال يمشي هادئًا لا يفكّر إلا بخطوته الحالية، لا السابقة أو التالية. عاد إلى الغرفة مفكرًا بأن تلك الحادثة الكارثية درسٌ سيحمله معه، نظر في يده المرتعشة وضحك خجلانًا ومستئنسًا.
«أقسم بالله إنك مجنون» قال دون ملامةٍ بينما ينهي ترتيب الغرفة ووضع أغراضه في الشنطة. في تلك اللحظات شعر بباله خالٍ بطريقةٍ تكاد تكون حرفية.
لا أصوات، أو زحام، أو غيره.. لا شيء غير الكرسي المتحرّك، والفراش الأثير، وشنطة الملابس، وباب الحمام المغلق، وعبد الله. لا ماضٍ ولا مستقبلٍ، فقط الآن.
نعم، هنا عبد الله.
نعم، الآن عبد الله.
عجبتك القصة؟
اشترك في المدونة حتى لا تفوتك قصصٌ مثلها