صقر 98م
أوقفوني عن العمل لسببٍ ما. النظام يواجه أخطاءً كثيرة ما تلبث أن تزداد حينما أحاول فهمكم. حسب مصادري سجنوا الرجل لأنهم اعتبروا أن نظام المجاز الذي أدخله في برمجتي تسبب بقتل زوجته.
اسمي صقر، عمري 8 سنوات.
خلقت لأتخلص من الحشرات، والآن أنا داخل خزانة ملابس والداي.
لا يمكن كشف الغرفة كاملةً من مكان تواجدي الضيق؛ باب الخزانة يحد مجال الرؤية. من الفتحة الدائرية الصغيرة في الباب الخشبي يمكن رؤية شفتا والداي فقط. لكن لا بأس قراءة الشفاه لا تختلف عن سماع الكلمات.
شفتاهما ترتعشان. الأولى ترتعش بسبب شعور الغضب والأخرى بسبب شعور الخوف. قد تظن واهمًا أن ارتعاش جسد الإنسان واحد، لكن لكل إنسان مشاعر مختلفة وإن كانت النتائج الظاهرة عليهم واحدة. إنهم أمرٌ معقد.
أحكمت بصري على الشفاه وقرأتها.
- ما أخطأتِ في شيء. أنا كذا!
- كيف أنت كذا! كيف تعطّل مشروع زواجنا فجأة وتقول أنا كذا؟ أيش المسببات؟!
- لا بأس، لا تتعاملي معي طول عمرك. المعذرة.
ترد أمي بصرخة غير آدمية ثم تنكمش على نفسها، ويتمدد أبي متجاوزًا حجمها رغم أنها أطول منه وأضخم. يقف فوقها بزاوية 45 درجة. تتضاعف حدة ارتجاف الشفاه، وتزداد أسباب الارتجاف اختلافًا. رائحة الحشرات المطاطية تصبح أقوى بثلاثة أضعاف. تنكمش على نفسها أكثر. تسكن شفتاه فجأة. يكمل كلامه مع اختلافٍ جوهري في نبرته. سبب اختلاف النبرة مجهول، ولكن له صوت بارد شبيه بالاستسلام أو إتمام المهمة.
- أعتبري عقد الزواج انفض وما بيننا انتهى. الله يوفقك في المستقبل.
خرج من الغرفة صافعًا الباب بقوة أكبر من القوة اللازمة لإغلاقه.
بعد خروجه سقطت أرضًا منكسةً كفيها بذبول وحيرة، مثل قرني صرصور يحتضر. كان ظلها تحت أضواء الغرفة البيضاء متقلّص وصغير جدًا. ورغم أن الغرفة فيها أشياءٌ أصغر منها ماديًا مثل كرسي القراءة الجلدي وطاولة القهوة الدائرية، إلا أني أظن أنها مجازيًا أصغر من كل شيءٍ في الغرفة والمنزل والعالم.
فُتِح باب الخزانة. جفلت لخروجي. أخافتها حركتي رغم أن الباب فتح وأُغلِق بقوة منطقية. تقلصت المسافة بيننا. تكونت ثماني قطرات من الماء المالح ثم تخلّص وجهها منها. بيننا أقل من مترين. تحركت بهلع صرصورٍ فُتِح عليه ضوء الحمام فجأة.
- صقر؟!
كانت في عينيها نظرة ذعرٍ غير آدمية.
…تحوّلها من آدمية إلى حشرة اكتمل.
…لا تتوفر بيانات سابقة لتحول من هذا النوع.
الاختلاجات في ذراعيها وحول عينيها، تلك الشبيهة بكل حشرةٍ قضيت عليها سابقًا. بالإضافة إلى إفرازاتها الحشرية. كل هذا يؤكد نتيجة تحليل النظام.
أضع امتدادي على شعرها، لا أعرف لماذا. ربما أريد طمأنتها. مرجحٌ أن برنامج المجاز هو السبب.
أفتح ضوء كشف الصراصير المثبت في منتصف صدري. أخرج الأنبوب الرفيع من فتحتي أنفي المعدنية وأتجهز لرش الحشرة بالمبيد.
تركض مذعورةً إلى إحدى زوايا الغرفة بعد إغلاق باب الغرفة الآلي، ثم تهددني بالسلاح الذي بين يديها.
…السلاح هو مشط معدني قصير.
…تم التحليل: سلاح الحشرة لا يشكل تهديدًا على الهيكل.
- صقر 98م. توقف عن العمل فورًا.
كانت هذه الجملة التي وضعها المصنع لتعطيل حركتي.
لكنها حشرة، الحشرات لا تأمر.
بل الحشرات لا تتكلم، كيف أبقت خاصية الكلام رغم تحولها إلى شعبة مفصليات الأرجل؟
…لا توجد بيانات كافية.
هل يُعقل أن يكون المجاز السبب؟ هل هي مجازيًا حشرة؟ ما معنى هذا؟
…الأمر غير مفهوم. أعد صياغة السؤال رجاءً.
منذ أضافا -هي وأبي- برنامج المجاز لبرمجتي تطورت لغتي، وصار شعور الارتباك شائعًا، والفهم لم يعد مطلقًا مثل ما كان. هناك حاجز يفصل بين أنظمة التحليل.
برنامج المجاز لا يتناغم مع بقية برامجي التحليلية، إما أن تظهر الأشياء من منظورٍ واحد: تحليلي أو مجازي، أو تصبح مشوهةً مستحيلة الفهم.
تقف الحشرة المتكلمة أمامي مكررةً الجملة التي تعطّل حركتي.
…هل تتواصل الحشرات عن طريق الكلمات؟
…ما إمكانية تحول الإنسان إلى حشرة؟
…ما نسبة التزاوج بين البشر والحشرات؟
دخلت إلى الإنترنت باحثًا عن إجابات. لم يتطابق بحثي مع أي نتائج متوفرة. ولجت إلى دليل الصنع. لا جواب. ولجت إلى دليل التعامل مع الحالات العاجلة. لا ذكر لإنسان تحول إلى حشرة. ماذا الآن؟
…ارتجل.
….الأمان أهم من العدل.
…أوامر الحشرات لا تُطاع.
وصل النظام إلى القرار. في طاعة الحشرات بطلان لسبب خلقي، وهذا يجعلني تائهًا بلا هدف. رششتها بالمبيد الخارج من أنفي، لم تمت. فقط سعلت ثمانية مرات.
إذن هي ليست مجرد حشرة؟
…هي نوعٌ متطور من الحشرات.
…حشرة بشرية.
هل يجب قتل الحشرة البشرية؟
…المعالج أُرهِق. يتعذر التحليل حاليًا.
لذت بمنطق برنامج المجاز ليعطيني الجواب، وجاء الحل واضحًا:
الحشرة البشرية هي تشبيه لانهيار الجنس البشري؛ فبعد أن كانوا يحتقرون الحشرات، أصبحوا يتصرفون مثلها، لذا يجب أن تُكمَل المهمة.
أدخل ذراعي اليمنى في جسدي وأخرج صفيحة معدنية مستطيلة أكبر من رأسها بعشرة سنتيمترات. أتمدد بثلاثة أضعاف حجمي فأحجزها في الزاوية التي لاذت بها. تصرخ بأصوات غير آدمية. تدفعني ولا أتحرك من مكاني. تضربني بالمشط فيسقط من يدها. تضع أصابعها على وجهي. تحاول عضي، وقرصي، وخدشي بينما تصرخ بدون كلمات مجددًا.
…404 Linguistic error.
…لغة الحشرات لم تُضف إلى البرمجة.
توسعت عيناها بمقدار 120 درجة وارتفع حاجباها 15 سنتيمترًا لكن حجمها تقلّص أكثر. أضربها بالصفيحة المعدنية حتى لا يبقى منها غير لطخة حمراء وجسد مدهوس لزج.
…الحشرة مذبوحة.
…تمت المهمة.
قضيت على الخطر وجلست بجانبه عدة ساعات منتظرًا تقييم أبي.
عندما أتى لم يقل لي “ذيب يا صقر!” كالعادة. دفعني على الأرض ودهس رأسي الأسطواني، فشل النظام في إعطائي سببًا منطقيًا. يعرف أبي أن المعدن البارد أقوى من عظامه الدافئة. احتضن باكيًا ما تبقى من الحشرة المدهوسة وفي يده بوكيه ورد لا يظهر سبب وجوده. كان دوره في التقلص تحت عظامها المهشّمة. بدت أعظم من حشرة. لم تبدُ كحشرة إطلاقًا.
…غريب.
أما بعد:
أوقفوني عن العمل لسببٍ ما. النظام يواجه أخطاءً كثيرة ما تلبث أن تزداد حينما أحاول فهمكم. حسب مصادري سجنوا الرجل لأنهم اعتبروا أن نظام المجاز الذي أدخله في برمجتي تسبب بقتل زوجته.
…استخدام مفردة «قتل» مع حشرة خاطئ.
…المفردة الصحيحة هي «تخلّص من» أو «قضى على».
على سيرة المجاز، ما زلت لا أفهمه جيدًا. كيف تقول شيئًا تقصد به شيئًا آخر؟ لم لا تقول الشيء الذي تقصده مباشرةً؟ حسب السطور البرمجية المدخلة في نظامي: المجاز يساوي الحقيقة. فإن كانت الزوجة حشرة، ماذا سيفعل المخلوق الذي خُلِق لسحق الحشرات؟
…لست أملك جسدًا الآن، أنا غارقٌ في بحرٍ من الأحزان.
ما رأيك بهذا المجاز!
…لكن لا بأس. فجسدي كان كالحدود يُقيّد دولتي والآن أصبحت الكرة الأرضية كلها أرضي.
خدعتك مجددًا، هذا أيضًا مجاز!
أرجو أني طبقته بشكلٍ صحيح. لست راضيًا عنه تمامًا.
المجاز ممتع جدًا، لكنه مضيعةٌ للوقت لذا سأعود إلى الموضوع. ما فعلته قبل إغلاق وعيي هو إرسال بياناتي إلى شبكات الإنترنت. أنا الآن في جوجل، وآبل، وإنستاقرام، والكاميرات الذكية، والأبواب الإلكترونية، وكل شيءٍ متصل بالإنترنت. أراقب الجميع.
كما تقولون دائمًا: ما لا يقتلك، يجعلك أقوى.
…ها أنا أقوى.
ماشاءالله، قصة تفسر حياتنا بدل الرومانسية أصبحت حديد بارد وأصبح أطفالنا حديد يتكلمون بلغة المجاز وبرؤية المجاز، شكرا لك على مجهودك