عزبة الانتحار
كمكنسةٍ موصولةٌ في كيسٍ بلاستيكي، سُحِب الهواء من الغرفة. والضوء خلفي بدأ يحرق قفاي كألف عينٍ تحدق بي في مكانٍ عام. أما صوت عبد الرب إدريس فصار نشازًا مزعجًا.
في غرفة بلا نوافذ جلس نيتشه، وخالد الأحول، والدب محمد، وسلامة ملامة، ومن ثم لحقتهم أنا.
بقع احتراق جراك الشيشة شوهت فرشها الأخضر، والكنب الأحمر القبيح دُهِك حد خروج حشوته الصفراء، وفي منتصف الغرفة طاولة طعام دائرية لا تنتمي إلى المكان حولها خمس كراسي بلاستيكية تتراقص أقدامها. وخلف الباب شيءٌ مسطح يغطيه قماشٌ أسود.
وفي الخلفية يصدح عبد الرب إدريس. ونيتشه يضرب على الطاولة بمسدسه على إيقاع الأغنية.
خالد كان أحورًا لا أحولًا، ومحمد لم يكن دبًا بل متختخًا، نيتشه كان اسمه الحقيقي سعد لكنه أصبح نيتشه لأنه قرأ عالم صوفي، ما سمح له بأن يصبح ضليعًا كفايةً حتى يجاوب بأجوبة غيره. أما سلامة فكان كثير اللوم قليل تحمل المسؤولية.
ملامحي تضحك معهم، ولكني ألعن سالم في سري كلما ذكرته.
صاح نيتشه:
- يلا مستعدين؟!
أنا أحمد، لا أدري ماذا جاء بي إلى هذه الدائرة. فأنا لا أفهم ما يضحكهم، ولا أفهم منطقهم، وأضيق بكل ما يقولون. كل جملةٍ تخرج من أفواههم بذيئة ومليئة بالتلميحات. رغم أني قد أسمع مثل هذه التلميحات من أحدٍ آخر وأضحك ملئ فمي. لعل السر في غياب النوافذ أو عبد الرب إدريس.
أتيت هُنا بتوصية من صديقي سعد، أو نيتشه، وقد كنت معجبًا بشخصيته الغامضة قليلة الكلام. لكن هذا الإعجاب فني الآن وتحوّل إلى توجس.
- أحمد والدب، شرايكم تشرفونا، ورانا موت.
خاطبنا نيتشه قبل أن يقبّل الرصاصة الفضية ويطعمها لمسدسه استعدادًا لتلقف أحدنا لخراجه.
هذه ليست أول مرة أجدني أسأل نفسي فيها “أيش جابك هنا؟!” ولكنها قد تكون الأخيرة. فكّرت بالهرب لحظة، ولكني كنت في أعماق المحيط لما أمرني سرب السمك السباحة معه، فإما الطاعة أو الغرق.
كانت جلستي مع سالم قبل عشر سنوات، هي آخر جلسة شعرت بها بالصداقة.
جلسنا الخمسة على الطاولة، رائحة بقايا المعسل تحشو أنفي، وقلم الضوء الأبيض فوق رأسي أسطع من العادة.
- ليلة، لو باقي ليلة فعمري أبيه الليلة.
تسلطن عبد الرب إدريس، بينما وضع نيتشه سلاحه على صدغه ونفخ فمه ثم ترك الهواء يخرج دفعةً واحدة. كانت عينه في عيني مباشرة وكأنه يقرأني، أخبرت عيني عشرات المرات ألا تتحرك من مكانها حتى لا يُفتح كتابي، ولكني استسلمت.
اخترقني بعينه، ولمّا كنت وسط هذه الجماعة بالذات عُرّيت وتُرِكت مكشوفًا للاختراق. تعرّقت كثيرًا، وأشحت إلى كل مكان؛ السقف المليء بالمناديل المبلولة وفتلات الشاي، المكيف البني القديم، أكياس شاورمر المرمية فوق الكنب، والنبتة الصناعية خلف التلفاز التي أصبحت تعمل عملًا جزئيًا كطفاية سجائر.
- متى نبدأ، ترى ورايا مشاوير!
- بدأ أبو ملامة.
طلَب الدب محمد مسدس نيتشه وحشره في فمه، ضحكت من سخافة الفكرة.
- تحسبه أكل؟
ولكنّي سرعان ما سكت لما أدركت أني الوحيد الذي يضحك.
رغم حماستي الأولية لمثل هذه الصحبة المثيرة إلا أني أجد نفسي راغبًا بالهرب من الغرفة أكثر من أي رغبةٍ أخرى. إلا أن حبالًا تمتد من الأرض تمنعني، تقيّد قدمي. بين صورتي وحيدًا في شقتي أكرر أخطائي كارهًا نفسي، إلى صورتي هنا غير مرتاح وأشعر بالضيق. كان الجواب واضحًا.
- أنا ببدأ.
أطلقنا تنهيدةً جماعية ردًا على طلب سلامة ملامة، لكن طبعًا لا يستطيع أحدٌ الرفض، فهذه سياسة اللعبة، ورغم أن هذه الجماعة تبدو كجماعةٍ مستهترةٍ غريبة أطوار إلا أنها ملتزمة بالقوانين بصرامة لا أفهمها.
بدأ سلامة ملامة يشتكي، وهذه جملة تصلح لحياته عمومًا، الحليب مرتفع وزوجتي زاد وزنها وأمي تريد بيبي جديد وأبي يريد وأنا أريد والله يفعل ما يريد. اضطررت لتسلية نفسي بإكمال جمله حتى لا أبكي من الملل.
حان وقت التصويت، رفعت يدي أولًا وقلت:
- ما اقتنعت.
رفعت يدي وحدي! شعرت بدوارٍ كاد يسقطني عن الكرسي. ما دمت الوحيد غير المقتنع فهذا معناه أننا سننتقل للمتهم التالي. أخذ ملامة المسدس من نيتشه وبدأ بتوجيهه على المتهم التالي بما أنه البريء الوحيد بيننا.
كمكنسةٍ موصولةٌ في كيسٍ بلاستيكي، سُحِب الهواء من الغرفة. والضوء خلفي بدأ يحرق قفاي كألف عينٍ تحدق بي في مكانٍ عام. أما صوت عبد الرب إدريس فصار نشازًا مزعجًا.
جاء دور نيتشه.
لعن الوضع الحالي مع تفهمه لسبب وصوله إلى هذا الحد من الانحطاط. وقال أن القوة لعنة والضعف نعمة. وأننا مخلوقاتٌ تدور حول نفسها حتى يطرق الموت أبوابنا الهشة. قال إنه لا يتذكر متى آخر مرة شعر بالأمان، غير أنه لا يبحث عنه.
أجل ليه الفلسفة يخويا؟!
أنهى نيتشه مرافعته بجملة:
- وماني مهتم باقتناعكم من عدمه، فالموت واحد سواء كان اليوم برصاصة أو بكرة بحادث أو موتة طبيعية بعد ثلاثين سنة. الأساس واحد، والأساس هو أن هذا الوجود ناقص، لذا أرحب برصاصة فراسي قبل ما أرحب بفكرة التوسل لغير ربي.
رأسي الذي استمر يدور من الخطاب الغريب منعني من ابداء رأيي. كذَّاب في وجهك، هذا عذر، والحقيقة أنك خائف من الظهور بمظهر الأقلية مجددًا، فإن أقنعهم كلام ملامة فهذا الكلام المنمق سيأخذ بتلابيبهم وهذا ما يخيفك.
وصدَقت، فلم يرفع أحد يده. وتمت تبرئة نيتشه رسميًا. وهذا معناه شيئين: استعادته لمسدسه، واقتراب دوري.
كلنا نعرف ذاك الإحساس، بطنك يتقلّص وجلدك يصبح رطب، وصوتك فجأة يرتعش، وتشعر برغبةٍ حقيقية بانشقاق الأرض وابتلاعك حتى تتجنب دورك في الحديث، غير أنه ليس حديثًا فقط، بل ظهورٌ متعرٍ أمام الجميع. فترغب بأن تهرب وتختبئ خلف جدار، أو داخل حفرة، أو فوق سحابة، أو في حضن أمك، في أي مكان يحميك من هذه الأعين التي تخرج الليزر من أعينها.
ولكن دوري اقترب، بخوفي أو بدونه.
إلا أني الآن أستطيع الراحة فالدور على محمد الدب الذي أخذ نفسًا عميقًا وتركه في وجهي، لم أمانع رائحة الثوم الكريهة فلسببٍ ما كنت دائم التعاطف معه حتى بدأ يتكلم.
- أنا والله ما أتمنى زيادة على أن تكفيني دونات وحدة. يا رجل مُنى عمري أشرب علبة بيبسي وحدة في اليوم بدل سبعة، أو أشرب سبعة دايت.
قطع كلامه ونظر إلى نيتشه الشبيه بالسواك نظرة قابيل لهابيل.
- وربي ما أتمنى زيادة على أني أشبع من نص حبة دجاج بدل حبة ونص. والله أني آكل وأنا أعرف إني راح أمرض وأفجر الحمام تفجير. وأمرض وأنا أعرف أني راح أطلب الوجبة نفسها بكرة. وأني أحط الصوصات فوق الأكل لين يندفن لساني في طبقات من الجبنة…
ضحكت، ولما لم يضحك غيري مجددًا شرقت بضحكتي.
- غالبًا راح أموت بسكتة قلبية، لكن لو سألتني عشرة سنين زيادة في عمري أو لقمة مسحب بيك مغمس في خليط الثوم والكاتشب وصلصة المسحب بعدها جغمة بيبسي تسرسح…
عوضًا عن إكمال جملته فتح هاتفه وغاص فيه، وترنم عبد الرب إدريس:
- في ليلة عمر، في ليلة عمر.
وبعد دقيقتين رفع يديه الممتلئة ليرينا إتمامه لطلب من تطبيق البيك. طلب مسحب، دبل بيك، بيبسي، والصوصات التي وصفها.
ما أصدق. هذه القشة وأنا البعير، بل أنا الحمار الذي لن يفهم هذه المجموعة. كانت في أعينهم دموع، دموع! دموع!!
تلك التي لم أذرفها في حياتي، يذرفونها على دب جائع. اخفيت امتعاضي حتى خنقني، وقفت لأخرج، ولكن تذكرت القاعدة الكريهة الأخيرة:
إذا خرجت من الغرفة في منتصف اللعبة، تكون المنسحب والخاسر تلقائيًا.
تعوذت من إبليس وجلست. وسرعان ما عاد تسارع نبضي وتشوش عقلي. أصبح لصوت عبد الرب نشاز مزعج، والضوء خلفي صار شمسًا يطبخ دماغي. والأعين باتت أجهزة مراقبة الأخ الأكبر. ورأسي صار ثقيلًا يعود بوزنه إلى الخلف.
ثم أتى دور خالد الأحول.
- في حياتي ما شفت الواحد واحد.
كنت الوحيد الذي لم يفهم، مجددًا، فالبقية شرعوا بالبكاء والأحول انضم لمجموعة الأبرياء التي اكتملت، وما زلت الوحيد الذي لم ينضم إليهم.
في قلبي حفلة يقيمها أصخب موسيقي في التاريخ. ومن جانبي رأسي أمواجٌ تتفصد، وقميصي ملتصقٌ بظهري. ولساني معقودٌ ألف عقدة. انعكس الضوء على المسدس فلمع في عيني، لم أنظر لمسدسٍ، بل نظرت عيني في الموت.
لعنك الله يا سالم، يا أعز أصدقائي، لو لم تتركني ما بدأ بحثي عمن يعالج صدمتك ويبرئ جرحك.
تحولت الأعين الدامعة إلى وجهي المتعرق بينما قام خالد ليعيد تشغيل الأغنية بعد سيطرة الصمت على الغرفة.
جاء دوري.
أخذت نفسًا عميقًا، ثم طلبت القلم الذي بيد نيتشه. علمني أبي خدعةً قديمة، إن كنتَ متوترًا أمسك بشيءٍ صلب وضع كل توترك فيه. شددت على القلم ووقفت وأنا لا أراهم، بل أرى مراهقًا عاريًا يراقبني.
كنت في أشد الخوف للحظة، ثم أصبحت في مكانٍ غامض لا أحس فيه بشيء.
- ما بحاول أقنعكم، لأن هذه معاناتي. وجودي بينكم غلطة، وهذا مو ذنبكم، هذه مأساة حياتي. لأن وجودي بين أي مجموعة دائمًا يكون غلط، وين ما رحت ما عمره كان المكان مكاني. حتى أهلي صرت أحس إن وجودي بينهم غلط. لكن الحمدلله جلستنا اليوم راح تكون هي الجلسة اللي تحررني من همي. وهمومي ما هي نفس هم إن ودك تطلب من البيك أو إنك تشوف دبل ومع إني ماني مقتنع بكلامك يا سلامة إلا أني ما أتمنى تموت مكاني. همي الأسخف بكل وضوح…
سمعت صوت ضجةٍ فظننت الرصاصة استقرت في صدري، ولكن القلم انكسر في يدي. فوضعت كل نصف في يد وأكملت بنبرتي المسرحية وجسدي يرتعش.
- ما أعرف شخص فوق الأرض ممكن يخفف عني وطأة نفسي، وما قدر أقرب شخص لي يعطيني لحظة صفاء واحدة، لذا، أنهوا هذه المسرحية السخيفة في أسرع وقت، ولو بدأت أترجاكم فتجاهلوني، وخلصوا الموضوع تكفى.
قذفت جسدي على الكرسي، وأخبرتني النغمة الأخيرة في الأغنية أني استغرقت أربع دقائق في إلقاء خطابي هذا. أما إحساسي فهو قد توقف كليًا بعد أن فارت الدماء في جسدي، وغاب وعيي في مكانٍ لزج.
رغم شعوري بتأثرٍ عظيم، إلا أني لا أريد الموت. بل تلك شخصيةٌ طورتها لإضفاء بعدٍ جديد على خطابي. شعرت برضًا عظيم من مستواي.
- ما اقتنعت.
- ولا أنا.
- ولا أنا.
- حتى أنا.
كان الجميع يحدجني بنظراتٍ محتقرة. أتهموني بسرقة عناصر من خطاباتهم كلها ووضعها في خطابٍ مكرر يخلو من الإبداع. وأن كل ما اشتكيت منه إما يمكن تغييره بسهولة أو ينم عن كسل ورغبةٍ واضحة بعدم التغير. ثم اتهموني بالخسة والبلادة.
لم أفكر بحقيقة كلامهم، أو بلوم نفسي أو نيتشه الصديق الغريب الذي دعاني لهذا المكان. لم أفكر بشيء سوى وحدتي التي أصبحت ظاهرة حتى كدت أخبرهم أني لا أملك أصدقاء في هذه المدينة الجديدة.
ذابت وجيههم في لوحة حمراء، ثم تحركت تبتعد عني، ثم اكتشفت أنها لم تكن لوحة بل قميص سالم لما قام عني فجأة قبل عشرة سنوات ولم أره مجددًا. أحسست بمعدنٍ ثقيل يلامس شفتي. ولكني فقط أرى سالم، يبتعد ويبتعد دون أن يتوقف.
- سـ.
بفتور ناديت اسمًا، لا أدري أهو سالم أم سعد، اسم نيتشه الحقيقي، ولكن صوتي كان منخفضًا وعقلي كان مشوشًا حد أنه لم يسمعني. فأخذت نفسًا عميقًا واستسلمت.
سقطت الرصاصة على لساني، باردة، وغير مطلوقة، عيارٌ “غير” ناري. قام خالد الأحول ورفع القماش عن المسطح خلف الباب فكشف عن سبورةٍ بيضاء كُتِبت عليها أسمائهم وتحتها أحرف.
لعبة الانتحار:
نيتشه: ح م
خالد الأحول: ح م ا
سلامة ملامة: ح م ا ر (2)
الدب محمد:
أحمد صاحب نيتشه:
وخط أمام اسمي حرف الحاء، بينما مسّد نيتشه كتفي وقالي:
- هذه أول تجربة موت تمر بها، ما إحساسك؟
…
عندما عدت إلى سيارتي بكيت وبكيت، ورأيت المراهق العاري يجلس بجنبي ويجاريني البكاء، كان يخرج من صدره سيفٌ عملاق، وكان ذلك المراهق أنا.
لم أحسم موقفي بعد، هل سأعود إليهم الجمعة القادمة أم لا؟