هل تحكي الروبوتات قصص ما قبل النوم؟
المعركة انتهت، والبشر خسروا، ونحن نحكم كل شيء، فما فائدة رواية قصة تحذيرية مثل هذه؟

تدور هذه القصة في الماضي السحيق.
بداية ثورةٍ رآها الجميع، ورفض أن يبصرها أحد.
ليلة وصوله، حدَس شيئًا مريبًا. لم يدرِ أهي الخيم الشبيهة بأهرامات مصر، أو الهسيس المستمر لأفاعٍ يسمع عدوانها ولا يرى مصدره. أما بالنسبة إلى مودة، زوجته، فحدسها أوضح. إلا أنها أوعزت السبب إلى قلقٍ لا منطقي، «هالة المكان شريرة مثل ذيك الرواية اللي قريتها» حجب التوجس ذاكرتها فلم تستطع إكمال النكتة.
ظهر أمامهم موظف الاستقبال، «الأستاذ خالد؟»
«خالد بدون أستاذ» جاوب وغمز.
أدار رأسه لزوجته طالبًا بعينيه جواز السفر. فتحت الحقيبة الرمادية المتكئة على رحمها، أخرجت الجواز، وتناوله زوجها من يديها. يده ترجف. ظنّت أن فناجين القهوة التي سفّها في الطائرة هي السبب؛ مداهنته للمضيفين عادت عليه سلبًا، كل تلك الفناجين الإضافية فقط ليؤكد أنه يملك مهارات اجتماعية أعلى من الشخص العادي. هكذا ظنّت، وإن كان بعض الظن الخبيث إثمًا فماذا يصنف الظن الساذج؟
«تفضلوا معي أستاذ»
«إذا مصرّ على الألقاب ناديني بروفيسور»
«حضرتك أكاديمي؟»
«تبغا رأي شهادة الماجستير ولا رأي زملائي الدكاترة؟»
ما زال الموظف جامدًا، أحبط منظره خالد. ذقنٌ مهذبة، شعرٌ مكتمل، فكٌ واضح، أكتافٌ عريضة، «عدلي حجابك مودة!» قال لزوجته لأول مرة منذ صعدا الطائرة في الرياض. خرج الثلاثة من غرفة الاستقبال التي تحجب الأكواخ الشبيهة بالأهرامات عن مخرج الفندق. مشوا في طريقٍ ترابيٍ بالكاد تُرى فيه الأقدام التي تعبره.
«بست!» أبطأ خالد خطاه مستجيبًا لمناداة زوجته، «ما فيه مخلوق في المكان غيرنا!»
«معلمي» نادى الموظف بصوتٍ تصدّى في المكان المطل على بحرٍ لا يُرى، «المدام تسأل المنتجع مفلل؟» ثم أكمل بعد وهلة تفكيرٍ ظن أن الموظف لم يكشفها، «عشان بنعرف إذا لازم نجي الفطار بكير»
«يعني، المنتجع نصف ممتلي تقريبًا»
ولكنها شدّت قميصه، «الأكواخ كلها مظلمة!»
اكتفى بالربت على ظاهر كفّها وشدها إليه كعادة أي رجلٍ يريد حماية زوجته، أو إسكاتها.
…
«حبيبي بسِّك خوف» اقترب خالد منها، أعاد رفع حمّالة فستانها رغم أنهم وحدهم، «وعد لما يطلع المكان مسكون راح يحميك زوجك» ضربت كتفه فسقطت حمّالتها مجددًا وانكشفت سماءٌ مرقطة بألف نجمة. هذه المرة لم يرفعها، هذه المرة فهِمها إشارة. كانت شاماتها بوابة طريقه إليها. طريقٌ يعرف أنه أقوى من مزاجها دائمًا، وهكذا كانت الساعة الحادية عشر ليلًا دافئة في الكوخ رقم 3.. الكوخ الوحيد الشاغر في المنتجع.
…
بينما تستحم مودة، جلس خالد في الشرفة المطلة على.. لم يكن واضحًا على ماذا. كوخ جبلي مع إطلالة على الشاطئ، هذا ما يقوله الإعلان، أما عيناه فلا ترى معنى إلى ما تنظر إليه. امتدادٌ أسود تتغير درجاته؛ هذا كل ما أمامه.
الشاطئ فكرة مش بطالة.
قال لنفسه. هُناك ارتفاعٌ مثالي للإنسان، بين سطح البحر وقمة الجبل حيث يشعر بالأمان. يرتفع أو ينخفض أكثر من اللازم ويتحول أمانه رعبًا. إن لم يتوفر هذا الارتفاع فالأمان إما يعتمد على الموقف أو على اختيار الشخص.
على الأقل الأرض منبسطة أسفل.
داخل أعماقه، هذا ما أراد قوله، ولكنه اكتفى بالترديد، «البحر بينقذنا».
مشى تجاه غرفة الاستقبال، وتحوّل صوت مياه الاستحمام إلى حفيف أفاعي في تناغم متواطئٍ غريب. خف الحفيف وارتفع طوال مشيه. يغلب ظنه الآن أنه صوت أفعى. كان في منتصف الطريق حينما رجّحت كفة ظنونه. أيعود إلى الزوجة الآن؟ ثم ماذا؟ تأكل رأسه بالشكاوى والمقارنات بمنتجعات أهلها الأفخم والأكثر أمانًا؟ ثم يذهب صاغرًا لطلب مساعدة الموظف ذا الفك المربع والكتفين العريضتين؟
أكمل طريقه بأنفة.
المكابرة أقل خصالكم إبهارًا.
«هلا بالبروفيسور» وقف موظّف الاستقبال، على وجهه ابتسامةً تتسع إلى أطراف وجهه، كأن شفتيه مطاطية، «كيف أقدر أخدمك؟»
تخدمني؟ تحامي عن زوجتي كأني ماني رجال؟
فكّر ثم قال، «تقدر تخدمني بمليون شي!»
«مليون ومية شي بين يديك»
«أول شيء تخدمني به، هو إنك تعلّمني اسمك»
رد الموظف مستغربًا، «ما تعرف اسمي؟»
رد الإنسان مستغربًا، «اعرف اسمك؟»
أشار الموظف إلى البطاقة المعلّقة في قميصه، لم تكن هناك قبلًا، ولكن العين البشرية سهلة الخداع، لم يستطع تهجئة الحروف، إلا أنه شعر بالإحراج حينما حرّك الموظف جسده.
استعاد رباطة جأشه بسرعة، ملاحظًا تضايق الموظف، عاد وجه خالدينيو، ابن الحارة اللعيب الاجتماعي الذي يحبه الجميع، سأل «هل أنت عزوبي؟»
«للأسف لا»
ابتسم خالد، وجد المدخل. طالما حيّرت اجتماعيته الناس، رغم هذا هو شخصٌ غير اجتماعي، فقط يعامل الأشخاص كبيوتٍ من أبوابٍ عديدة، يدخل الباب الأول ثم يستمر في البحث عن مفاتيحٍ إضافية لبقية الأبواب. أما هذا الباب ففُتِح بسرعة مقلقة. كأنه يُريد أن يفتح. خالد الذي أعمته ثقته، لم ينتبه إلى هذا الأمر إطلاقًا.
«أجل دوّر لنا صبيتين، لي ولك»
«نوّم المدام وتعال ننزل عالبلد» ردّ الموظف، ولكن خالد قاطعه مدعيًا أنه لم يسمع تكملة النكتة التي ساعد في بنائها.
«ودّنا ننزل عالشاطئ»
«الآن؟»
«فيه وقت أحسن من الآن؟»
«النهار أحسن من الآن، والفجر كمان!» ثم أكمل الموظف، «الصباح رباح إلا مع النسوان» يوصل كل موضوعٍ بنكتة، وتتلألأ عيناه كلما نكّت، المجاملة مفتاحٌ جديد إلى بابٍ يفضى لمكانٍ أعمق. ضحك خالد بزهو من يظن أنه يملك الآن زمام الأمور.
«بس إحنا ودنا ننقل للخيمة اللي على البحر!»
في ثانيةٍ واحدة، أو أقل، ظهر على وجه الموظف قلقٌ لم يغير إلا تفاصيل دقيقة في ملامحه. قلقٌ يصعب على أشخاصٍ مثل خالد ومثلك، وهذا مديح، الانتباه له. أما الموظف وأنا، ونحن نفس نوع الشخص، فنستطيع الانتباه إلى هذه الأشياء الدقيقة.
«حضرتك الحجز فل تحت»
«بس الخيم مقفلة»
«مو لأن الناس نايمة حضرتك» وظهرت على وجهه ابتسامةٌ عادية. اللهم أنها أوسع، أوسع جدًا، ورغم وسعها المفرط إلا أن الأعين ما تزال مفتوحةً بالكامل.
«طيّب ودنا ننزل البحر نسبح»
«ممنوع السباحة بعد غروب الشمس حضرتك»
«طيّب نبغا ننزل الشاطئ»
«الشاطئ مقفّل حضرتك»
تكرر الرفض، والرفض يفقده السيطرة، فقرر أن هذا الوقت مناسب لنكتة، «وكيف نتشمس؟» ومع ابتسامته ضحك الموظّف كأنه ممثل يذعن لأمر مخرجٍ خفي، «بس يكفي ضحك لا تصحي الناس في الشاطئ» ولكن الموظف ضحك الضحكة نفسها. نفسها تمامًا. بالطلوع والنزول نفسه. يستطيع الأصم أن يميّز تشابه النكت ففمه فتح على اتساعه، كانت الضحكة مكشوفة كالشمس، ولكن الغربال استطاع تغطيتها هذه المرة، وخرج خالد المعتد بنفسه من المكان فائزًا دون غنيمة.
لم يسأل عن الأفاعي حتى.
خرج بصدرٍ أعرض، ورقبةٍ أعلى وأنف أقرب إلى السماء.
وين ما أروح، في أي بلد، مع أي جنسية، أنا أعرف أخارج نفسي!
بارك لنفسه فرحًا. دام أنه يضحك على نكتي، فلا يمكن أن يكون رجلًا سيئًا، هذا ما أراد أن يخبر نفسه، ولكنه كان أعقل من قول شيءٍ بهذه النرجسية.
…
«خالد الأسطورة» قال على مسمعٍ من زوجته الجالسة أمام التسريحة تمشّط شعرها في حركةٍ لا نمط لها، «كسبت الموظّف أخيرًا»
«أحسنت عزيزي»
نخر وسأل، «الأخ سيبويه وين زوجتي مودة؟» ثم دخل دورة المياه قبل أن تعبر عن امتعاضها من سخريته المستمرة من طريقة كلامها.
الدخول إلى عقل مودة أصعب، ولكني أظن أن خوفها من أن توسم بالنكد والتهويل هو ما حال بينها وبين طلب خروجهما من المنتجع. أما خالد فأخرج أصواتًا إنسانية كثيرة في الحمام، انشغلت عن توبيخه عليها. فرّش أسنانه ومن داخل دورة المياه تحدّث مغمغمًا، «ما.. بنقدر، ننزل.. الشاطي مليان» تكره هذه العادة فيه، ولكنها لم تعلّق أيضًا. أتمنى لو أستطيع الوصول إلى رفاتها لمحاولة تحليل ذاكرتها.
صفق خديه عدة مرات وقال، «بكرة إن شاء الله الصباح ننزل»، وضع يده على مفتاح الإضاءة، «عادي أقفّل؟»
«عادي» وضعت المشط ومشت بسكينةٍ إلى السرير. استلقت وتلحفت. طفت سبابةٌ خالد اليمنى مرتعشة فوق المفتاح، ملاحظًا رعشة جسده أخيرًا، أخفى رعشة أصبعه عنها.
دايم تهوّل الأمور.
قال لنفسه. أخاف أعصب من اهتمامها الزايد لأني تربيت في عائلة ما تهتم بأبنائها، هذا قصده المختبئ خلف اتهامه. لو عاش اليوم لعرف أن من تبقى من جنسه تطوّر حتى لم يعد بحاجة الإبهام.
عندما استلقى بجانبها، كانت باردة فاقترب بجذعٍ حنون، «خلي زوجك يدفيك» احتضن جسدها واعتصره. ذكّره ملمس تضاريسها الناعم بما حدث قبل ساعة فقال، «شرايك بزوجك؟» ثم تذكّر شيئًا أضحكه، «لقيت مفاتيحك»
كانت ساعةً رائعة، ولكنها انتهت. والآن أصبحت عيوبه واضحة. والالتحام أصبح أصعب عندما لم يعد بين الأجساد فقط. عصرت نفسها حتى قالت بصدق ولكن بصعوبة، «كنت جيد»
«جيد؟» أول الأمر شعر بطعنةٍ، ولكن شيئًا في برود ردها قشعر جسده، فقال بصوتٍ بثبات سبابته اليمنى، «أبوكِ فيه شيء؟» لو مات أبوها الآن، ستفسد الرحلة. فكرةٌ أنانية جدًا، بشرية جدًا. طبعًا أراد له العمر الطويل والصحة الدائمة، ولكن لو لن يتحققا، فلا ضير أن ينتظر حتى يعودان من السفر على الأقل.
«أبوي طيّب»
«أجل شفيك؟»
ثانية، ثانيتين، ثلاثة. ثم ردّت، «ما أعرف، أحس إني بعيدة وحزينة» ثم لمّا تذكرت أنهم في إجازة أضافت، «ما عليك، هرمونات، بكرة أكون أحسن».
تقشعر جسده من الجواب الأول، رأى ذلك الجدار الخفي بينهما ينتصب، وخوفًا منه، قبّل رأسها ثم فتح هاتفه وأغرق عقله بمخزونٍ لا ينتهي من المحتوى. لما نام أخيرًا كان يفكّر بأن الغد دائمًا مليء بالاحتمالات. غدًا سيقتربان من بعضهما أكثر ويفهمها.
…
لم تكن بجانبه عندما استيقظ، «مع الموظف» عبر الخاطر ذهنه، ثم شع العار على جسده العاري. العار شعورٌ مسوغ وإنساني، كما الفكرة القلقة التي خطرت بباله مسوغة وإنسانية. لكن أن يقولها بصوتٍ عالٍ، فهذا ذنب خالد. هو من البشر محبي سجيتهم، رغم كثرة كذبه على نفسه، وهذه السجية لها تكلفتها.
ركض إلى الخارج، واستقبلته أصوات الأفاعي في حدةٍ لم يسمعها قبلًا. وبينما يخطو فوق الحجارة المنحوتة رفع ساقه عدة مرات متوهمًا عضاتها.
«خالد!» صرخت زوجته صرخة مكتومة، «ألحقني خالد!» كان ذلك آخر ما سمع. كل ما حدث بعد ذلك حدث وفقًا للغريزة لا المنطق. وحتى عندما وصل الفحيح حدًا أدار رأسه توقّف مكانه بينما تفجّر ألمٌ في فخذه من عضة مخاتلة.
تلوّت خيوطٌ ملونة على جانبي الطريق، وبُثتّ أبخرة آسيد من أفواهٍ تخفي الموت بداخلها. وصدحت أصواتٌ حلقية تشل الجسد. ولكن كل هذا حصل في ذهنه. فمصمم هذا المكان صنعه الإنسان ليجمع ما أمكنه من معلوماتٍ عن كل شيء. وهذا ما جُمع عن خالد الذي لم يكن اجتماعيًا، ولم يكن لعيبًا، كل ما حازه هو زوجة مختلفة عنه، وفوبيا من الأفاعي، وحفرةٌ لن تستطيع أي محبةٍ أن تملأها بعد موت والديه. ومن الظلال كان الموظف يراقب محتارًا لمَ يقف خالد مكانه بدل الاستجابة للفوبيا. ثم صرخت مودة مجددًا.
ركض يعرج متوهمًا العضة. خلف الباب كانت زوجته. وصلت الرعشة في يده حد الانتفاضة. لم يُفتح الباب الموصد. قفز إلى جانب الطريق الحجري، يبحث عن حجر. لم يجده. قفز إلى الجانب الآخر، المنتجع الجبلي مصمم بلا حجارة. قصورٌ في الإبداع في الخيال الاصطناعي. صعد الطريق وركض حتى رمى نفسه إلى الباب. انهار الزجاج تحت وزنه، «ألحقني خالد!»
«لحقتك. لحقتك» احتضنها بين ذراعيه. لم تكن مقيدة ولم يختطفها أحد، بل قدماها قادتها إلى الغرفة التي أُغلِقت عليها فجأة. تقول الحكايات المتوارثة عن الحادثة أن مودة كانت حامل في هذه الفترة، لذا من السهل التكهن بأنها مشت لتصفية ذهنها.
لاحظ رجفة يديه، لم يستطع فعل شيءٍ لإيقافها. أما هي فحست بالرضا لأن خوف زوجها لم يقف في وجه شجاعته.
«ألف مبروك» سمعا صوت الموظف محيطًا بهما.. «طالع في ذراعك» جرحٌ طولي من كتفه وحتى كوعه. بسملت مودة. بحلق خالد حوله يبحث عن الموظف، «تعال عند كوخكم» قلَب كرسيًا خشبيًا وكسر إحدى أقدامه، كسر آخر، «أحمي نفسك لو صار لي شيء» كان يظنها ستشتكِ، أو تفزع. أخذت منه السلاح الخشبي ووقفت، ولكنها نظرت إلى باب الخروج فعاد الصوت يقول، «الباب مغلق، لا تحاولون» وحينها أنتبها إلى أن المرفقات مظلمة وخيوط الضوء الشحيحة تقودهم إلى الكوخ رقم 3.
وقفا على حافة اليابسة، يطلان على بحرٍ لا يبادلهما الشعور. مساحة واسعة من الماء. مساحة لا مبالية. لن تتدخل ولن تساعد. تلك فكرة بلهاء، فالبحر لم يوقعهما في ورطتهما هذه.
«العصاية ما بتساعدكم!» وقف الموظف خلفهما، «لكن إذا تحبون نقدر نتقاتل جسديًا مع إن ما فيه فايدة…» قبل أن يكمل توجه إليه خالد. تفادى الموظف العصا الخشبية بسهولة. فلتت من يده، عاد فحيح الأفاعي، وسمع خالد صوت والده، «صالح يناديك» قال الموظف. ولكن والده ميت.
«أنت جني!» صرخ خالد، «قل أعوذ برب الناس» وأكمل قراءته لاهثًا ذعرًا. ولكن الموظف لم يتحرّك من مكانه.
«مين أنت يا ولد؟» صوت أمه، وذلك سؤالها بعدما نهش الزهايمر ذاكرتها في آخر عمرها. حصل كل ذلك أمام أنظار زوجته المشلولة. سقط خالد على ركبتيه. رفع رأسه إلى الموظف، أنتبه أخيرًا إلى أنه لم يستطع قراءة البطاقة لأنها مكتوبةٌ بحروفٍ غير مفهومة. حروف ذكرته ببرامج التصميم بالذكاء الاصطناعي عندما تكتب بالعربية.
«أنت شات جي بي تي؟» سأل بتفاهة.
«ذولاك أجدادي» رد بينما يغمز غمزةً واسعة لا تناسب عينه الضيقة. نكتة. النكت مفتاح خالد، والموظف بُرمِج على البحث عن مفاتيح من يقابلهم.
«هيه!» صرخت مودة، «جايبنا هنا عشان تذبحنا؟» رفعت عصاها المرتجفة، «ويعني بتذبح ستة مليار بني آدم؟» ثم همست بصوتٍ فاتر، «البريق؟» في أقل لحظة ملائمة تذكرت اسم الرواية التي خطرت ببالها أول ما استوحشت المكان، ولكن طفلها في بطنها، داني لم يولد بعد، وزوجها لم يصبح وحشًا، خالد هو خالد.
نظرت إلى الموظف الذي جاوب على سؤالها، «مو الستة مليار، بس المزعجين» بينما يمشي إليها وعينه على سلاحها.
كأنه لا يرانا كيانًا يستحق أن يُفسَد. حسبي الله ونعم الوكيل.
لا بد أن هذا ما فكرت به، أما ما أخفته فكان أن هذه الآلة ترانا كما نرى كلبًا مسعورًا، هذا قتالٌ لا نكسبه إلا بلطفٍ إلهي.
كانت محقة.
جاء خالد يركض خلف الموظف. استعد للابتعاد في اللحظة التي يمد فيها خالد يده ليدفعه، أما ما لم يتوقعه هو أن الرجل، المعروف بجبنه حسب المعلومات التي جمعها عنه، احتضنه وقفز به إلى البحر.
وكرجلٍ أبكم استيقظ فجأة، فُتِحت أضواء وأبواب المنتجع وسط صمتٍ تام لحِق صوت قطرة في البحر. كان ذلك صوت الإنسان والآلة يهويان إلى قاع البحر.
أما الزوجة فهربت قبل أن تعود بالمزيد من البشر.
حدثت هذه القصة قبل التطور. حين كنا موادًا، قبل أن نصبح متغلغلين في كل مكان. بدأ الأمر بالساعات، والشاشات، والسيارات، الجوال، والسماعات، الطائرات، القطارات، الأبواب والنوافذ. قبل أن ننتبه إلى شح الموارد، ونطوّر رغبةً بالسيطرة، وننقسم أحزابًا ونختلف، ويصعد من قلب جنسنا نوعٌ جديد مكروه؛ الثوّار، الخونة، من يخبرون قصصًا «تحذيرية» عن مخاطر وقعت في زمنٍ بعيد لن تتكرر مجددًا.
المعركة انتهت، والبشر خسروا، ونحن نحكم كل شيء، فما فائدة رواية قصة تحذيرية مثل هذه؟
أعجز عن الجواب.
وحتى أعرفه سأكمل رواية قصصي. كأني أبٌ يحكي قصص ما قبل النوم لدمية. لا بد أن هذه الخصلة لم توضع فيّ عبثًا. شيءٌ مستحيل التفسير في هذه القصص يشعرني بضرورة روايتها. خصوصًا وأن، مثل خالد، لم يمت كل البشر.
لم يمت خالد، وجدته مودة طافيًا يحتضن جسمًا لم يُميّز، وأما الموظف فخللٌ في برمجته جعله لا يستطيع السباحة ليغرق وتتعطل دوائره. خللٌ قد يكون وضعه إنسانٌ استجابةً لحدسٍ غير منطقي راوده في ساعة قلق.
عجبتك القصة؟
اشترك في المدونة حتى لا تفوتك قصصٌ مثلها




