مطاردة
ما لبثنا أن توقفنا سويةً، نظرت إلى سلاحي وكالممسوس بدأت يدي تلقّمه الرصاص وتجهزه للإطلاق وأنا لا أدرك ما تفعل حتى تفعله
يعود إلي وعيي بعد أن كنت غائبًا في مكانٍ هلامي. لا يؤلمني رأسي، ولكن تدوخني رائحة بلاستيكية غزت شعيرات أنفي. أرفع رأسي لأحك أنفي المتحسس فتتسارع نبضات قلبي لمّا أنظر للمسدس الذي في يدي. أرفع رأسي قليلًا لأجد مقودًا يدور بعنف ناحية اليمين فيجن قلبي وتدق طبوله.
عن يميني سيارة داخلها رجل غريب الأطوار. فتح نورها فرأيت وجهه بارزًا في ظلمة الليل؛ كان قبيحًا مرعبًا، كأن أحدًا عبث بملامحه فجاءت عشوائيةً لا ينتمي أيها إلى الوجه نفسه، جلده أبيض محمر كعظمة بيضاء غُمِّست في سطل دم.
خفت، وفكرت بالجرم الذي اقترفته حتى يُسلّط الله علي أمثاله. ولكنه ساوى دواسة البنزين بالأرض وأنطلق هاربًا كرصاصة.
أوه، أنا لست المطارَد أنا المطارِد. عجيب.
ساويت دواستي بالأرض وانطلقت خلفه لا ألوي على شيء ولا يختلج بصدري سوى توجسٌ غامض. كنا كخيلين يتغنى الشعراء بسرعة قطعها للصحراء. اختفاء أضواء الطريق من كل مكان لمّح لي أننا في خط سفر. وأكدت شكوكي لوحة مكة.
بالكاد انتزع مركبته من المسار الأوسط إلى أقصى اليسار ليتفادى شاحنة ماء. أرخى الليل سدوله على الطريق، وحتى السماء لم تزينها نجمةٌ واحدة أو قمر، وكانت الشاحنة المصمتة التي ظهرت فجأة محل سيارته مقتلي.
إلا أني لم أمت.
يبدو أن عضلاتي تتذكر ما لا أتذكره. لم أخبر يدي أن تفعل شيء، إلا أن بلاهتي لم تمنعها من لف المقود بخفة نحو المسار الأيمن، بل وأطالت التزمير بوقاحة وأشارت لراكب الشاحنة إشارات ظننتها لا تخرج مني.
لحقت الرجل القبيح وجرحٌ عميقٌ غامض يحترق داخلي.
أهو مسببّه؟
توازينا مجددًا. أعطيته نظرة فاحصة، فبدى جلده يسيح عن وجهه. أقبح وجه رأيته في حياتي، كان كالمرشميليو الذائب. زيّف حركةً وكأنه على وشك لف مركبته اتجاهي. جفل عقلي، ولكن عيني وقلبي بقيا ثابتان فلم أحيد عن طريقي. خطرت في بالي فكرة:
أترك التفكير، واتبع غريزتك.
سرعان ما تنامى داخلي حقدٌ على هذا الرجل، وشعرت بيميني ترتفع ببطءٍ وثبات. حتى لمّا رأى المسدس وقبل أن يفطن لفعل شيء أطلقت نحو العجلات رصاصات كانت كالشهب المحترقة في هذا الظلام الدامس بلا نجوم.
حاست سيارته وانحرفت إلى جانب الطريق كغزالةٍ جريحة أو آلة مات قائدها.
ولكنه لم يمت.
بل صعد جسرًا بجانبه لوحة مكتوبٌ عليها: ينبع.
وخزني رأسي، فوضعت يدي عليه لتعود لزجةً مضرجةً بدمائي، نظرت إلى المرآة الجانبية لأرى جرحًا عموديًا شق وجهي من منابت شعري وحتى أعلى جفني.
ضربت يدي زر المسجل في طريقي لاكتشاف جمجمتي المفتوحة فاشتغلت أغنية غمرتني بإحساس دافئ. لا ذكرى أتت، ولا شيء سوى إحساس اعتراني. إحساسٌ بصباحاتٍ متعبة، ورغبة قوية بالاستسلام وعزيمة قويةٌ للاستمرار بسبب شيءٍ أكبر مني. غُمِرت حد أني نسيت المطاردة للحظة، بل نسيت الطريق كله. فعندما قال المطرب الذي لا أتذكر اسمه:
محبوبي أبيض وخده نادي.
كدت التحم بالحديدة التي تطوق جسر الصعود لطريق ينبع.
أغلقت المسجل وأعدت التركيز على ما يهم، الملعون الهارب. لا شك أنه مصدر الجرحين. تجلت في مرمى عيني أضواءٌ وغمّازات حمراء وزرقاء. يجب أن يُقضى الأمر قبل وصولنا إلى المكان المأهول.
ألقيت نظرةً فاحصةً على سيارتي لأول مرة، فوجدت صورةً لطفلةٍ صغيرة معلقة في ركن مرآتي الخلفية. دهتني مرارةٌ قوية، اشتعل حلقي كأني ابتلعت حمضًا. وخامرتني رغبةٌ لا طاقة لي بصدها، كإلهامٍ يجب تحقيقه، وفي ثوانٍ ربطت كل شيء ببعضه.
هذه ابنتي! وكيف لك أن تنسى شعرها الحريري الأسود، وابتسامتها الحزينة التي تخفي شفتيها، وعينيها الكبيرتين اللامعتين دائمًا. وهل تجرؤ أذنك أن تنسى صوتها الحاد وضحكتها الصامتة التي كانت آية سعادتك؟
وأتذكر، أتذكر أطوارها الغريبة لما تحزن وتغضب فترتعش شفاها وتتعمق التجاعيد بين حاجبيها. وتلك المرة التي شرَقت فيها بحبة دوريتوس وكادت توقف قلبي وقلب أمها. وكيف نامت في حضني ليلتها خوفًا من حبة الدوريتوس الشريرة. ووعودي بالقضاء عليها كأني فارسٌ مغوار يتوهم أعداءً في أكياس البطاطس.
لامست وجه ابنتي بخنصري وتأججت داخلي نارٌ لم يعد مصدرها غامضًا.
علي قتله؛ دفاعًا عنها!
أول مرة غزا صدامي صدامه لم يتحرك كثيرًا، إلا أن الحرب كرٌ وفر. فأعدت الكرة. هذه المرة شققت هيكل سيارته، فعلقت سيارتي داخل الشق. دست المكابح فتوقفت مركبته معي. كانت سيارته تحوس في مكانها بلا جدوى. فالكوريلا الصغيرة لن تحرّك مركبتي الأمريكية ولو استعانت باليابان كلها.
ما لبثنا أن توقفنا سويةً، نظرت إلى سلاحي وكالممسوس بدأت يدي تلقّمه الرصاص وتجهزه للإطلاق وأنا لا أدرك ما تفعل حتى تفعله، فشعرت بتواطؤ سري داخل جسدي أنا الوحيد الذي لم يكن جزءً منه وخطرت على بالي نكتة لا أتذكر أين قرأتها. كان تعليقًا لطالبةٍ ممتعضة تقول:
كيف أرسب في الأحياء، عقلي حرفيًا يعرف أماكن أعضاء جسدي لكنه يرفض إخباري!
أضع قدمي خارج سيارتي بعد تلقيم مسدسي لأنهي المهمة وأحمي ابنتي. ويهتز هاتفٌ في فخذي.
- ألو؟
- مين؟
- “مين؟” أنت المتصل!
- صح، لكن تعرف أنت مين؟
- محمد أمين.
- …
- أيش تبغا؟
- الشخص اللي في السيارة أمامك قتل بنتك…
تجاهلت التحذير في بقية كلامه. فجأة أصبح كل شيءٍ تلقائي.
وقفت خارج سيارتي. مشيت اتجاه سيارته. وقفت أمامه، كان ينظر إلي بعينيه الهزيلتين الخاليتين من الأهداب والحواجب. أغلَق باب المركبة، فحطمت الزجاج بكوعي. لكمته ثم فتحت الباب. أكملت اللكم حتى لم أعد أرى بياض جلده. كنت لا أستمع لشيءٍ وأنا أضرب. لا صوت ارتطام مفاصلي بوجنته. ولا صوت تهشيم عظام وجهه. ولا الصوت الرطب الذي نتج عن ضربي لكيسٍ خشن مليء بالدماء والعظام المحطمة. لم استمع لهذا كله، مثلما لم استمع لمّا نبهني الصوت.
- …عندك الخيار؛ إذا قتلته راح تنتقم منك عصبته كلها، وإذا تركته ما بيجيك شيء.
…
ثم سمعت صفير استدعاء، ظهرت بعده في الصحراء المحيطة بالطريق ظلالٌ بيضاء بلا ملامح. وفي تلك اللحظة استوعبت أنّي لم أرَ مركبةً واحدة طيلة مطاردتي له. سرت في جسدي برودةٌ لما لمحت أول واحدٍ منهم؛ كانوا كلهم يشبهون الملعون الذي خطف مني حبيبتي، سبب استيقاظي كل صباح.
سرت إلى مركبتي بهدوء، وأعدت تشغيل الأغنية ورفعت الصوت إلى آخره. أردت فتح المسدس للتأكد من عدد الطلقات وقبل أن أُحبَط لأني لا أتذكر الطريقة. قامت يدي بالمهمة على أكمل وجه.
5 طلقات والظلال البيضاء المقتربة تتجاوز الـ 50 كانت سيارتي ملتحمة بالأخرى، لذا خيار الهرب غير متاح. لكن سأموت مقاتلًا.
أطلقت أول طلقة اخترقت رأس الأبيض الأول والمغني يتسلطن: آه يا حلو يا مسليني.
ثم الثانية قطعت اليد التي أمسكت بتلابيبي: يا اللي بنار الهجر كاويني.
والثالثة والرابعة كانت في صدر واحدٍ دخل من باب الراكب: من كثر شوقي عليك ما بنام.
أما الخامسة فلم أعرف أين انتهت: يا غايبين وإن جيتوا بسلامات.. هاتوا حبيبي وياكم.
أشعر بوعيي ينفلت عائدًا إلى المكان الهلامي. أضع يدي بين صدري وقميصي لألامس صورة ابنتي سارة. وفي بالي أني قريبٌ لملاقاتها، حتى أني أصبحت أراها وأسمعها:
- بابا، أيش يعني كاويني؟
شعرت كأني دخانٌ رفيع يسحب إلى زوبعة وعادت رائحة البلاستيك تغزو أنفي ورأيت أشخاصًا يحملون جسدي إلى معملٍ ما كله مشارط ومعقمات وأقنعة، لا بد أن هذا هذيان الموت. أنا قادمٌ إليك حبيبتي لأنقذك من كل حبات الدوريتوس الشريرة.
…
- عجيب.
- فعلًا عجيب، طوّر قصة من الصفر حتى قتل شخص غريب.
- وكيف صدقني بدون سؤال حتى؟ يمكن أكون نصاب وكلامي كله كذب؟ يا أختي غريبين الناس هذولا.
- الصورة، والمسدس، ولا تنسَ قبح الشخص وهربه الغريب. مثل ما درسنا في العلوم، هذه مخلوقات استثنائية تعيش على الأساطير.
- شكّل من كل هذا قصة، كتبها وصدقها ومات عشانها، واو.
- الموقف هذا ليس إلا المستوى الأول؛ عندنا اختبارات أعجب من هذا بكثير. شفت بأم عيني واحد منهم يدخل سفينة تحترق وينقذ أشخاص ما يمتون له بصلة.
- مثل اختيار هذا الرجل الانتقام لـ “ابنته” مع إن قبيلة كاملة تنتظره.
- لحظة أيش يعني بأم عيني؟
- مجاز.
- أيش يعني مجاز؟
- ..
- ..
- نظّفوا الطريق، وأحرقوا الموتى، وجيبوا رجّال عنده عائلة هذه المرة. واكتبوا نتيجة الاختبار: تُحدّد لاحقًا.
- خطرت على بالي فكرة؛ أيش رأيكم نجيب الوالد الحقيقي للبنت اللي في الصورة؟